يروي في فيلم ريتا باسيل أنه تلميذ عاصي الرحباني
 

في فيلمها الوثائقي «منير أبو دبس في ظلّ المسرح»، الذي يعرض بعد أيام ضمن تظاهرة «مهرجان الفيلم اللبناني» في بيروت، تلقي الشاعرة الصحافية ريتا باسيل الضوء على شخصية أحد المؤسسين للمسرح اللبناني الحديث، إن لم يكن هو المؤسس والأب الذي وضع اللبنات الأولى، حيث أعجب البعض به، وتمرد عليه البعض الآخر. إنما يبقى الرجل رائداً سباقاً، والأرشيف - كما العادة في ما يتعلق بالفنون العربية - فقير، والتأريخ للمسرح شحيح، والمعلومات ضئيلة. وبالقليل المتوفر، ومن خلال تتبع الرجل لسنتين، واستجواب ذاكرته، صنعت باسيل فيلمها، والتقطت لحظات من الذاكرة كادت تضيع، وإلى الأبد.

سيرة أبو دبس أكبر من حياة فنان عادي، لأنها تتمفصل مع نهضة الستينات، والصعود الحداثي اللبناني، وتلك العلاقة مع الغرب التي لا تعطى تفاصيلها ما يكفي من أهمية، إن لجهة الدراسة أو التأثر، ومن ثم العمل المشترك بين الفنانين يوم كان لبنان جسراً فعلياً بين المنطقة العربية وأوروبا. أما المحور الثاني، وربما الأهم في مسار أبو دبس، فهو عشقه المبكر جداً للفن، قبل أن يعرف ما هو المسرح، وما هي الموسيقى، من خلال علاقته بالكنيسة، وهو أمر لا يقل أهمية عن الأول، فالطقوس الدينية على اختلافها كانت مبعث وحي لكثير من مسرحي المنطقة، وكان أبو دبس أبرزهم.

تابعت ريتا باسيل الرجل بمهارة وحب، قبل أن يرحل عن دنيانا عام 2016، رصدته في قريته الجميلة «الفريكة»، وهي أيضاً قرية الأديب أمين الريحاني، حيث أقام سنواته الأخيرة في خان للحرير، وجعله محترفاً ومزاراً لمحبي المسرح، وأقام فيها مهرجاناً مسرحياً حمل اسمها. ومن لم تكتب له زيارة هذا المكان الحجري القديم، وما يحيط به من طبيعة خلابة يوم كان أبو دبس حياً، يمكنه أن يراه في الفيلم، ويتأمل كيف كانت تصطف الكراسي في الداخل لاستقبال المتفرجين، وتعمل الجرافة في الخارج لإبقاء المحيط الأخضر عفياً. ذهبت باسيل لاحقة بأبو دبس إلى باريس، لتستعيد معه زمن الدراسة والأعمال المسرحية الأولى التي ساهم فيها، ومن ثم عودته إلى لبنان في الستينات للعمل مع لجنة «مهرجانات بعلبك» لعشر سنوات، مسؤولاً عن سينوغرافيا الأعمال اللبنانية، ليرجع هارباً إلى فرنسا من الحرب الأهلية اللبنانية، بعد أن اندلعت عام 1975. لكن، وبعد أن حطت الحرب أوزارها، وجد أبو دبس نفسه مدفوعاً مرة أخرى للإقامة في الفريكة، قريته الوادعة، التي لم يمت فيها وإنما في باريس. هذه الرحلات المكوكية بين البلدين، جعلت هذا الفرنكوفوني يتحرك بين ثقافتين، كما تجول بين الفنون. وليس غريباً بعد ذلك أن نراه في الفيلم الوثائقي يتكلم الفرنسية، لا العربية، ويضطر الجمهور اللبناني لأن يقرأ الترجمة كي يتابعه.

يطل أبو دبس بعينيه الزرقاوين اللامعتين، ووجهه الهادئ، ونظرته الهائمة، ولحيته البيضاء، يروي كيف قضى طفولته في أنطلياس (شمال بيروت)، التي كانت لا تزال بساتين من شجر الليمون، تتوزع البيوت القليلة بين أشجارها، وأولادها يهربون من أهلهم ليلعبوا على الشاطئ، ويغطسوا في ماء البحر، وينالون عقابهم في كل مرة. هو ابن لوالدين لم يعرفا الاستقرار، سافرا إلى بلدان كثيرة، قبل أن يقرر الوالد ترك زوجته والأولاد في لبنان ليتابع سفره وحيداً، ويغيب طويلاً. يروي كيف وجد نفسه ذاهباً إلى المطار ذات مرة وحيداً، ليستقبل والده الذي يعرفه من صور قديمة، لكنه لم يتمكن من التعرف عليه حين وصل إلى بيروت بين المسافرين، لولا أن الوالد وضع يده على كتفه، وناداه باسمه.

تلك الطفولة التي يحكي منها شذرات كالكلمات المتقاطعة تشي بعلاقات عائلية صعبة، وكثير من البحث عن روحانيات ربما كان يفتقدها. من هنا، بدأ يتلمس طقوسيات الكنائس، حين يرتادها للصلاة أو في الأعياد، وهو ما سيطبع مسرحه طوال حياته. في عيد الفصح، كانت دهشته الأولى وهو يكتشف ستارة سوداء كبيرة جداً ومهابة تغطي جدار الكنيسة، يقف أمامها ويتأمل. ذاك كان أول عهده بالستائر الكبيرة. مرة أخرى، خلال صلاة مسائية باللغة السريانية، وجد نفسه يبكي بكاءً شديداً، ويستغرب لماذا كل هذا التأثر، ليكتشف بعد ذلك عبر أبحاث جاك لاكاريير أنه كان في العصور الوسطى في أوروبا ثمة رهبان بكاؤون، يجتمعون فقط بهدف البكاء معاً لتطهير الروح. القصة المثيرة حقاً في تلك المرحلة المبكرة هي أنه كان لمنير أبو دبس أستاذ في المدرسة، يحرص في عيد البربارة على أن يجعلهم يلعبون ويمثلون وهم يتقمصون شخصيات، ويتنقلون في الغرف لتأدية الأدوار المطلوبة منهم، ولم يكن هذا الأستاذ سوى عاصي الرحباني، الذي سيعود ويعمل أبو دبس معه في بعلبك، ويكتشف وجهاً آخر له، وهو حرصه الشديد على الدقة.

تأثيرات الطفولة والسنوات الأولى ستتطعم بمرور الوقت بمزيد من المذاقات الفنية الأوروبية في أثناء دراسته وعمله في باريس. فإضافة إلى محترف روجيه غايار الذي التحق به، تعرف على ألان كوني في الستينات، وعمل كمساعد لجاك فيلار، الذي سيأتي إلى الفريكة بعد ذلك، ومثله الرسام والنحات ألفونس فيليب الذي انخرط معه في محترفه اللبناني لعشر سنوات، ورسم له الأقنعة التي كانت من عناصر التمثيل المحببة لديه. ومن الذين عمل معهم أيضاً، لكن هذه المرة في بعلبك، مصمم الرقص الأميركي ألوين نيكولاس، حيث يشرح أي تأثير كبير تركه عليه. نيكولاس كانت له فلسفته في حركة الراقص، كان يمكن للانتقال من نقطة إلى أخرى أن تشكل رقصاً، فليس الهدف شدة الحركة بقدر ما تشي به من إيحاءات وتأثيرات في المتفرج، وهو ما سيستفيد منه أبو دبس بعد ذلك للاستغناء عن حركة الأطراف عند الممثل.

الإقامات المكوكية بين لبنان وفرنسا سمحت لأبو دبس بتعميق العمل على مسرحه الطقوسي الميثولوجي، وتطعيمه بأدوات عدة، لكنه بقي سوداوياً معتماً تراجيدياً، وهو ما جعل جيل الستينات المتطلع إلى مسرح من نوع آخر لا يجد معه ما يصبو إليه. روجيه عساف، من ذاك الجيل المؤسس هو الآخر في الستينات، في شهادته في الفيلم يقول دون مواربة: «كثر رفضوا تجربة أبو دبس، وكنت منهم؛ لقد وجدوه غريباً عنهم. المسرح بالنسبة لنا كان مكاناً للتحرير والتحريض، وقول ما نراه في المجتمع، وكان كل هذا غائباً عن مسرحه».

كان أبو دبس يشق دربه على طريقته، من الشعر إلى الرسم فالمسرح فالتلفزيون الفرنسي عام 1959: «لقد كنت فضولياً حقاً. كان التلفزيون شيئاً جديداً جداً. ومع هذا، وجدتني أذهب مع أصدقاء من جامعة السوربون لأعمل هناك»، حيث كان مسؤولاً عن قسم الدراما، ويعمل مساعد مخرج وممثلاً في وقت واحد. ويوم ذهب مؤسس تلفزيون لبنان، رينيه أوري، طالباً العون والمشورة من مكتب الإذاعة والتلفزيون في باريس، أعلموه بوجود موظف لبناني يعمل في قسم الدراما. بعدها بمدة، طلبت سلوى السعيد من أبو دبس، لو بمقدوره، العودة إلى لبنان، والعمل مع مهرجانات بعلبك، وعرضت عليه إعطاءه مقراً في رأس بيروت، وميزانية صغيرة. هكذا، ولد «معهد التمثيل الحديث»، ومنه تخرج كثر صاروا كباراً ومؤسسين هم أنفسهم، من أنطوان كرباج إلى ريمون جبارة، ورضا خوري، وميشال نبعة، وميراي معلوف، هذه الممثلة التي تتحدث في مطلع الفيلم عن علاقتها بأبو دبس، لتقول إنه علمها الصمت الذي سيبقى عالقاً في ذهنها كلما صعدت إلى الخشبة. أما أنطوان كرباج، فيصفه بأنه أستاذه، معه اكتشف كيف عليه أن يحرك عضلاته، ويتحكم بها واحدة واحدة، وكيف يكتشف دواخله وعواطفه. ومعلوم أن أبو دبس عمل أيضاً على إخراج أعمال لشكسبير، والكثير من الأعمال اليونانية القديمة، وكان هذا ولعه. وحين نسأل المخرجة باسيل ما الذي دفعها إلى إخراج هذا الفيلم بهذه الحساسية والفنية، وهو الأول لها، تقول: «ما ربطني بأبو دبس هو الشعر، وتحديداً سوفوكل. والشاعرية جزء مهم من الفيلم الذي صور وأنتج بإتقان، من بدايته إلى منتهاه، حيث يختتم بشعر وموسيقى، ويبقي المتفرج مشدوداً إلى الشاشة حتى اللحظة الأخيرة».