جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب، يرى أنّ «العقوبات» تدفع الفلسطينيّين إلى المفاوضات والتسوية. ماتيّو سالفيني، وزير داخليّة إيطاليا، ذهب أبعد: قارن اللاجئين الأفارقة بـ «العبيد». تعابير كـ «حثالة» و»حيوانات»، سبق أن أطلقها ترامب على ملايين البشر، لم تُنسَ بعد.
مواقف القادة الديموقراطيّين الليبراليّين تختلف نوعيّاً عن تلك البذاءات العنصريّة للشعبويّين. توجّهات الاتّحاد الأوروبي حيال الموضوع الفلسطيني أو سياسات أنغيلا ميركل في الهجرة واللجوء، والتي تتعرّض لحصار بعد آخر، تندرج في هذا الإطار. خفّة إيمانويل ماكرون وعجرفته لا تحجبان آراء له بدأ يطلقها حين زار الجزائر كمرشّح رئاسيّ، وأبدى استعداده للاعتراف بمسؤوليّة فرنسا «الاستعماريّة» عمّا حصل من مجازر. أخيراً، اعتذر الرئيس الفرنسيّ لأرملة موريس أودان، الشيوعيّ الناشط في صفوف الثورة الجزائريّة الذي «اختفى» في 1957، قبل أن يخفيه الصمت مرّة أخرى. كذلك، أوحى بأنّه سيفتح ملفّ «الحَرْكي»، وهي قضيّة مُشكلة: فهم وقفوا مع الجيش الفرنسيّ إبّان الثورة، لكنّ مسألتهم ومسألة أبنائهم وأحفادهم تبقى، حين يُنظر إليها فرنسيّاً، أمراً إنسانيّاً وأخلاقيّاً عالقاً.
وقد يقال أنّ همّ ماكرون انتخابيّ، لكنْ ما المانع من أن تفضي المصالح السياسيّة المشروعة إلى مواقف إنسانيّة وأخلاقيّة متقدّمة؟ فالمسألة، في آخر المطاف، لا تتعلّق بنوايا أصليّة، بل بفتح مجال حرّ تعمل فيه المصالح والتجارب بقدر من النزاهة، ويتاح فيه تأسيس التقاليد والاحتكام إلى القوانين. فالمواقف المتقدّمة ليست بالضرورة معطى أصليّاً، وإلاّ كنّا نطلب الكثير. إنّها أفق يُشترط السير إليه بشروط ينبغي العمل على توفيرها.
في هذا الإطار، وبعيداً من طلبات الحدّ الأقصى، يغدو من الممكن تعزيز سياسات خارجيّة لا تخالف السياسات الخارجيّة للشعبويّين فحسب، بل تطوّر أيضاً نظريّتها المقيمة تحت ذاك الخلاف. فاليوم، وخصوصاً مع تعاظم اللجوء والهجرة، يكاد كلّ خارجيّ يغدو داخليّاً، وكلّ داخليّ يغدو خارجيّاً. وفي هذا المجال يبقى الماضي الاستعماريّ واحداً من البنود التي لا يزال غامضها ومستورها أكثر كثيراً من مُعلَنها. وهذا علماً بأنّ الماضويّة وتمجيد الماضي كانا دائماً جزءاً عضويّاً من الوعي القوميّ والشعبويّ.
فالمواجهة على هذه الأرض تفترض فعلاً المراجعات النقديّة والاعتذارات والتعويضات لشعوب نُكبت وقُهرت. ذاك أنّ «أممنا» لم تكن «مجيدة» ولا «عظيمة» حين غزت وفتحت ونهبت سواها. وهذا ما يوجّه رسالة احترام للذين اضطُهد آباؤهم وأجدادهم، ولا يزال بعضهم، كالفلسطينيّين، يُضطهَدون. لكنّه، فوق هذا، يُحطّم واحداً من جدران البناء القوميّ والشعبويّ الذي ينطق بلسانه ترامب وسالفيني وكوربان وأضرابهم.
بيد أنّ عمليّة كتلك لا تكتمل ولا تستقيم من دون مراجعة موازية للقوميّة والشعبويّة عندنا، مراجعةٍ تقول إنّ الاستعمار كان قسوةً وجبروتاً ونهباً، لكنّه كان أيضاً سكّة حديد ومدرسة وحزباً وجريدة ونقابة واتّصالاً بالعالم كسر عزلتنا عنه وضيقنا به. والأمر ليس مصدره ضرباً من تفوّق أوروبيّ ميتافيزيقيّ، أو بيولوجيّ، بل مردّه إلى الرأسماليّة التي وحّدت العالم للمرّة الأولى في التاريخ، بعدما عاش طويلاً بوصفه عوالم منفصلة. أمّا اليوم، فالهجرة واللجوء، اللذان يجعلان الداخل خارجاً والخارج داخلاً، هما أيضاً عمل ثقافيّ في نقده الذات الطاردة، وانفتاحه على الآخر المستقبِل، وكفاحه ضدّ عاشقي نفوسهم الكريهة هنا وهناك.