المقاربة "التطبيقية" البحتة لمسار العدالة الدولية، بالنسبة الى بلوغ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، مرحلة الاحكام النهائية بالنسبة الى جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والجرائم الاخرى ذات الصلة، أمام جملة تحديات وتعقيدات، لا شك في ذلك. في المقابل، اختزال المرحلة الاخيرة من المحاكمة، ونتائجها، في "البُعد الرمزي المعنوي" فقط، هو ايضاً تفريط بمساحة اساسية من هذا الاستحقاق القضائي الدولي. نتائجه ستتجاوز بأقل تقدير "البُعد الرمزي"، وهذا لا يفترض بحد ذاته ان ينقسم الناس حوله، بالعكس، ان يكون مشتركاً بين المقاربات، بصرف النظر عن اختلافها حول المحكمة، او حول النتائج، او حول شكل العلاقة بالذين ستصدر في حقهم الاحكام، او بالنسبة للحالة السياسية العامة المرتبطة بهؤلاء، او الذين يرتبط هؤلاء بها.
فأياً يكن من شيء، سيأتي الكشف عن هذا التراكم المعرفي القانوني، ونتائجه القضائية الدولية، في سياق تنمية الشعور بأن هناك حدّاً أدنى من العدالة ضروري في أي مجتمع. صحيح ليست الخيارات مقتصرة على العدالة القصوى، او غياب العدالة، لكن من دون حد أدنى من العدالة ثمة مخاطرة كبيرة بالنسبة لأساسات أي مجتمع. صحيح انه، في المجتمعات المتعددة في انسجتها الاهلية نفسها وليس فقط في تياراتها السياسية، تدخل اعتبارات اضافية عديدة، لكن هنا ايضاً لهذه الاعتبارات حدودها، وحدودها هنا متصلة بكيفية الخروج من دوامة العنف، وبخاصة عندما تصير هذه الدوامة من النوع الذي يكاد يحتكر فيه طرف واحد هذا العنف.
اغتيالات 2011 - 2013 حلقة اساسية في تاريخ العنف والدم لبنانياً. لا يمكن اختزال كل هذا التاريخ في هذه الحلقة، مثلما لا يمكن محو هذه الحلقة بحجة هذا التاريخ. وبوصفها الحلقة الاخيرة من جولات العنف اللبنانية، وبوصفها الوحيدة التي امكن بصددها ان يتم تتابع تراكم معرفي قانوني لمن خطط لها وحاك ودبّر وعمل بثبات لضرب العدالة، غير متورع عن سفك دماء ضحايا آخرين عملوا على كشفها، بالاضافة الى سفك دماء متورطين في الاغتيالات، لأجل الحؤول دون اكتشاف الحقيقة قدر الامكان.
للحلقة الاخيرة من ملف العنف اللبناني اذاً امتيازها، وهذا الامتياز يحتوي مضامين عدة. لا يمكن ترجمة هذه المضامين بشكل فوري وتلقائي، كما لو ان البلد لا يعاني اساساً من مشكلة عدم تمكنه من احقاق سيادة القانون على كل اراضيه. في نهاية الامر، الاتجاه القضائي هنا يتعارض مع الواقع التغلّبي الفئوي القائم لبنانياً، مثلما انه يكشف تفاصيل مؤلمة، وحساسة، وغير تفصيلية ابداً، بالنسبة الى هذا الواقع التغلّبي. هذا غير كافٍ طبعاً لنقض هذه التغلّبية الجامحة من اساسها، لكن اكثر من كافٍ لادخالها في لحظة جديدة من زمانها، لحظة لا يمكنها فيه الاكتفاء بمجرد المكابرة. هناك "استحقاق" بالمعنى الحرفي للكلمة هنا. هناك شيء مستحق على قوى بعينها، على ذهنية بعينها، على اشخاص بعينهم، على اسلوب في التفكير بعينه. الاستخفاف بهذا لن يبدل كثيراً من طبيعة المستحق.
عملياً: منذ سنوات، ثمة نوع من "ربط نزاع" يجد ترميزه في البيانات الوزارية بذكر بند المحكمة وبند المقاومة في وقت واحد، رغم انهما "خلافيان". في اقل تقدير، بات هذا الترميز المزدوج، على مفارقات ذلك، موضع سؤال كبير .. وعويص اليوم.
هناك بُعد سياسي اساسي، على محك النتائج القضائية المرتقبة. بُعد يحتاج الى الكثير من التدبير والعقل، بلا شك، لكن شرط ذلك رفض منطق التشبيح والمكابرة والابتزاز والتهديد.