من الواضح حتى الآن انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ليس في وارد التراجع عن وجهة نظره المتصلة بتمثيل «القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» داخل الحكومة، وقد أكد ذلك أساساً بقوله «لست مستعجلاً ولن أتراجع»، فيما الأمثلة التي أوردها في كلمته أمام أبناء الجالية اللبنانية في ستراسبورغ تؤكد انه ليس على عجلة من أمره، واضعاً التأخير في تأليف الحكومة ضمن إطار «أمراض الديموقراطية في كل أنحاء العالم»، ومستشهداً بـ«الأزمة الالمانية التي بقيت سنة وفي بلجيكا التي بقيت سنتين وأكثر» بغية تبرير التأخير الحاصل. وبالتالي، أي تعويل على مبادرة لعون قد لا تكون في محلها.
ويحلو للبعض القول: «أنظروا إلى تاريخ الرئيس عون فمتى وضع هدفاً من المستحيل ان يتراجع عنه، وهو لا يأبه لتداعياته كون الأولوية بالنسبة إليه تحقيق هدفه، وتكفي العودة إلى الفراغ الرئاسي ومحطات تأليف الحكومات فضلاً عن محطات أخرى تعود للحرب ولا مصلحة باستذكارها، ما يؤكد أنّ عون اتخذ قراره بتأليف حكومة بشروطه او وفق وجهة نظره، وليس مستعداً التراجع عنها إطلاقاً، الأمر الذي يضع البلد أمام ثلاثة احتمالات:
ـ الاحتمال الأول، أن يدخل لبنان في فراغ ما بعده فراغ نظراً لاعتبار الحريري والدكتور سمير جعجع والنائب السابق وليد جنبلاط انّ المشكلة ليست عندهم، وانهم ليسوا في وارد التراجع.
ـ الاحتمال الثاني، ان تتراجع «القوات» و«الإشتراكي»، وهذا الاحتمال غير وارد كون «القوات» تعتبر انها تراجعت أكثر من قدرتها على التراجع، فوفق وجهة نظرها يحب ان تتمثّل عددياً بـ5 وزراء ونوعياً بحقيبة سيادية كونها ثاني أكبر كتلة نيابية وشعبية مسيحياً، وهي على استعداد للامتثال لأيّ معيار يتم اعتماده من معيار الوزير جبران باسيل النسبي الذي تحصد بموجبه 5 وزراء، إلى معيار لكل 4 نواب وزير والذي تتمثّل بموجبه بـ4 وزراء وتتقاسم الحقائب مع فريق العهد وفي طليعتها الحقائب السيادية.
وفي موازاة ذلك تشعر «القوات» انّ التنازل مطلوب من طرف واحد، فيما الطرف الآخر يعتبر نفسه غير معني بأيّ تنازل او تساهل، خصوصاً انّ المعايير التي يضعها تشبه اي شيء إلّا المعايير. كذلك تشعر انّ الهدف منذ اللحظة الأولى هو إحراجها لإخراجها من الحكومة العتيدة، لأن بإخراجها فقط يتمكن فريق رئيس الجمهورية من الحصول على الثلث المعطِّل، وهذا ما يفسِّر أساساً الدعوة منذ اللحظة الأولى إلى حكومة أكثرية ومن ثم تحديد تمثيل «القوات» بـ3 وزراء، فضلاً عن انّ وجودها في الحكومة راكَم في شعبيتها وقطع الطريق على تمريرات وتلزيمات، وبالتالي المطلوب وبإلحاح إخراجها إلى المعارضة.
والعقبة الأساسية أمام تحقيق هذا الهدف الذي يُخرج «القوات» من التشكيلة تكمن في الرئيس المكلّف الرافض تجاوز «القوات»، خلافاً للتجارب السابقة التي كان يُعرض فيها على «القوات» تمثيلاً معيناً، فإذا وافقت تشارك وفي حال اعترضت يتم تجاوز اعتراضها. ولكن هذا الأمر تبدّل اليوم بسبب النتيجة الانتخابية التي لا يمكن القفز فوقها بهذه السهولة، الأمر الذي يفسِّر التباين وصولاً إلى الخلاف واستطراداً المواجهة التي نشأت بين فريق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
وأما على مستوى جنبلاط فليس وارداً بالنسبة إليه التساهل ولا التراجع لثلاثة أسباب أساسية: إنتزاعه أكثر من ٨٠٪ من الأصوات الدرزية، التهيئة لتوريث نجله تيمور على أرض صلبة، قطع الطريق على محاولة خلق مواقع نفوذ من خارج الطائفة، وما لم يتحقق عن طريق «حزب الله» لن يتحقق عبر باسيل.
ـ الاحتمال الثالث، ان يتراجع الحريري لأسباب اقتصادية واجتماعية ولأنّ «قلبه عا البلد»، ولأنه اعتاد، كما يراهن البعض، على انعطافات من هذا النوع، وبالتالي الكرة في ملعبه، فإمّا يتراجع وتؤلف الحكومة بشروط فريق العهد، وإلّا لا يتراجع ولا حكومة حتى نهاية العهد او حدوث تطورات كبرى واستثنائية، فيما كل التقديرات تؤكد استحالة تراجعه للأسباب الآتية:
ـ أولاً، لأنّ المرحلة الأخيرة أظهرت ان هناك من يريد إحياء الملفات الخلافية وفي طليعتها التطبيع مع النظام السوري، وهو يدرك انه لا يستطيع مواجهة هذا الملف منفرداً ومن دون جعجع وجنبلاط، خصوصاً ان عون وباسيل أطلقا أكثر من إشارة عن تجاوبهما مع التطبيع بل استعجالهما له، وتذكيراً بأنّ الحريري كان قد أكد ان اي خطوة من هذا النوع ستدفعه إلى الاستقالة كونه لا يستطيع ان يتحملها شعبياً وعربياً، وبالتالي لن يغامر في تأليف حكومة تفتقد إلى التوازن الوطني-السيادي.
ـ ثانياً، لأنّ المرحلة الأخيرة أظهرت، بالنسبة الى فريق رئيس الحكومة، انّ فريق رئيس الجمهورية لم يتبدّل، فلدى وقوع أوّل تباين جدي استعاد الفريق الثاني أدبياته العدائية حيال الفريق الأول من «one way ticket» إلى «الإبراء المستحيل» وما بينهما، وبدأ المطالبة بنزع صلاحيات وتحديد مهل وتفسير الدستور «على كَيف كيفه»، الأمر الذي ولّد نقمة واسعة داخل البيئة السنية واستنفاراً ذكّر بمرحلة المواجهات بينها وبين «حزب الله». وبالتالي، لم يعد في إمكان الحريري في مناخات من هذا النوع ان يضمن علاقته مع هذا الفريق، وشهر العسل الذي قام بينهما في حكومة العهد الأولى انتهى إلى غير رجعة على رغم التغزّل المتجدد بالحريري في وسائل إعلام «التيار الوطني الحر» والذي لا يمر على أحد.
ـ ثالثاً، لأنّ الرئيس المكلف مؤتمن على تأليف حكومة تجسِّد ما أفرزته الانتخابات من نتائج، في حين انّ ما يطلب منه هو تجاوز الانتخابات خلافاً لكل ما قيل ويقال، ونتائج الانتخابات تقول بوضوح تمثيل درزي كامل لـ«الإشتراكي» وتمثيل «القوات» بـ4 وزراء كحد أدنى، وفي حال تعذر منحها حقيبة سيادية تخصيصها بـ4 حقائب. وبات الرئيس المكلف يدرك ان لا إرادة للوصول إلى حل، وهو قال ممازحاً وبنحو معبّر جداً «انّ الاعتراض على تمثيلها سيتواصل حتى لو ارتضَت بـ4 وزراء دولة»، وبالتالي لن يكون في وارد تقديم صيغة لا تنسجم مع المعطيات الانتخابية.
ـ رابعاً، لأنّ الرئيس المكلف مؤتمن على تأليف حكومة تجسِّد التوازن الوطني والشراكة السياسية ولا تكون حكومة غالب ومغلوب كما يراد لها ان تكون، فضلاً عن انّ الحكومة ليست مسألة رقمية، بل تعكس روحية وطنية مطلوب توافرها وهذا الأمر يخضع لتقدير الرئيس المكلف، ومن هذا المنطلق لن يوافق ولن يغطي ما يُحاك على هذا المستوى من محاولات كسر «القوات» و«الإشتراكي» لدفعهما دفعاً إلى خارج الحكومة كهدف فعلي وأساسي، خصوصاً انّ عمر هذه الحكومة طويل جداً وستكون امام استحقاقات وتحديات كبرى، فيما المطلوب ان لا تكون «القوات» تحديداً داخل دائرة القرار الوطني في هذه المرحلة لكي تخلو الساحة لباسيل.
ـ خامساً، لأنّ المجتمعَين العربي والدولي لن يوافقا على حكومة تفتقد إلى التوازن الوطني، وهذا التوازن لجملة اعتبارات وعوامل بات يؤمَّن بالنسبة إلى هذين المجتمعين من طريق «القوات» تحديداً، فيما تغييبها عن الحكومة سيحولِّها بالنسبة إليهما حكومة «حزب الله»، الأمر الذي لا يمكن إمراره في لحظة مواجهة مع طهران في إيران نفسها وعلى امتداد الساحات العربية، فيما الموافقة على اي حكومة من هذا النوع يعني تسليم مفتاحها لطهران.
ـ سادساً، لأنّ الرهان على التجربة مع الرئيس المكلف وانعطافاته التي تشجِّع على انعطافة جديدة ليس في محله، لأنّ هذه الانعطافات كانت مكلفة جداً على حيثية الحريري وشعبيته، وبدلاً من ان تكون محط تقدير له ولحسّه الوطني برفضه خراب البلد، هناك من يراهن على هذا الجزء الوطني من شخصيته بغية تحقيق أهداف غير وطنية، ولكن الرئيس المكلف الذي قدّم بدوره أكثر من قدرته لن يكون في وارد التساهل مجدداً، خصوصاً بعد ان استعاد «بطريركيته» على الطائفة السنية، وبالتالي لن يغامر بشعبيته المُستعادة وإقرار طائفته بمرجعيته بتنازل أمام الفريق الذي تتهمه طائفته بالسعي للانقلاب على «اتفاق الطائف» وربط لبنان بإيران.
فلكلّ ما تقدم من أسباب وعوامل واعتبارات، فإنّ الرهان على لَي ذراع «القوات» و«الإشتراكي» عن طريق الرئيس المكلف هو رهان فاشل، والفراغ الحكومي قد يستمر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في حال لم يقدِّم فريق رئيس الجمهورية التنازلات المطلوبة للوصول إلى المساحة المشتركة التي تفسح وحدها المجال أمام تأليف الحكومة، وفي المحصلة لا حكومة سوى في حالة واحدة وهي تراجع الفريق الرئاسي عن سَعيه الى تحجيم «الإشتراكي» وتحجيم «القوات» أو إخراجها من الحكومة وتقديمه التنازلات التي تسمح الالتقاء في منتصف الطريق نحو حكومة متوازنة.