لم تعنِ مسودة الرئيس المكلف سعد الحريري للحكومة الجديدة، في 3 ايلول، سوى انه يقدّم الى الشريك الدستوري في تأليف الحكومة الذريعة الحتمية التي تجعل لا حكومة وشيكة في مدى قريب، ما لم تقع اعجوبة. مسودة معدّة للرفض فحسب. وقد رفضها رئيس الجمهورية ميشال عون، وعاد تأليف الحكومة الى النقطة الصفر. كأنه في اليوم الاول. 
 

مع ان السجال على الصلاحيات الدستورية جُمّد، بيد ان ما حصل بين تقديم الرئيس المكلف مسودته وكلام رئيس الجمهورية في الطائرة الى ستراسبورغ، بين 3 ايلول و10 منه، وصولاً الى اليوم، اثبت ان الصراع على الصلاحيات قائم حتماً، وقد يكون برسم التصعيد في وقت لاحق. هو في اي حال لا يقل اهمية عن النزاع على الحصص والحقائب. ليس قليلاً تأثير الافرقاء اصحاب السقوف العالية على مسار التأليف، وهو دور يُستعاد في كل مرحلة مماثلة، على ان التأليف لا يتوقف في نهاية المطاف عليهم وحدهم، ولا على اصرارهم على شروطهم والفيتوات الفتاكة التي يمتلكونها. ثمة صراع خفي على الصلاحيات ليس ابن تأليف الحكومة، بل هو في صعود متزايد منذ مطلع عهد عون، اختبر اكثر من مرة في السنتين المنصرمتين من عمر الولاية.
عندما قدّم الرئيس المكلف "المسودة المبدئية" تصرّف على انه يمارس صلاحياته الدستورية بملئها. بحسب الدستور هو مَن يتقدّم بها. وهو الذي يقترح على رئيس الجمهورية الصيغة الملائمة لتوافقهما على اصدار مرسوم التأليف، كي يمهره بتوقيعه. وعندما رفض الرئيس المسودة - وإن اراد هذا الرفض ملطّفاً من خلال "ملاحظات" لكنه رفضٌ ووأد لها - كان يمارس بدوره صلاحيته الدستورية بملئها، بالموافقة على ما يتقدّم به الرئيس المكلف او التحفظ عنه، قبل ان يقرّر توقيع الصيغة. 
بذلك توَازَنَ الرجلان في استخدام صلاحياتهما الدستورية على النحو الذي ناطه بهما الدستور، من دون زيادة او نقصان، ما افضى الى الخلاصة المعروفة: كلاهما شريكان متكافئان في تأليف الحكومة. يتساوى صاحب الاقتراح مع صاحب التوقيع، فلا يسع احدهما ان يفرض على الآخر خياره، ولا حمله على التنازل والتخلي عن وجهة نظره. هما بذلك محكومان بالتفاهم. وهو شأن يختلف تماماً عن كل ما يقول به، او يشترطه، الافرقاء والكتل المستوزرون. 
بالتأكيد الرئيس المكلف هو الذي سيمسي رئيس مجلس الوزراء الذي لا يسعه ممارسة صلاحياته الدستورية، ودوره القانوني، على رأس السلطة الاجرائية الا بعد نيل ثقة البرلمان. لكن الصحيح ايضاً، قبل ذلك كله، ان توقيع رئيس الجمهورية الذي فقد في اتفاق الطائف ترؤس مجلس الوزراء، هو الذي يمنح ابصار الحكومة النور شرعيتها الدستورية ما ان يوقع المرسوم. عندما تفشل حكومة جديدة في نيل ثقة مجلس النواب، لا يحرم ذلك رئيسها واعضاءها صفاتهم. لعل تجربة حكومة 1973 - وإن في ظل الدستور السابق - خير دليل: لم يمثل الرئيس امين الحافظ امام مجلس النواب فلم تحز حكومته ثقته، لكنها ظلت دستورية ما بين تاريخ تأليفها في 25 نيسان وتاريخ استقالتها في 14 حزيران. عقدت جلسات عدة لمجلس الوزراء، وفي 7 ايار اتخذت قرار اعلان حال الطوارىء في البلاد، ووضعها في عهدة الجيش، ابان النزاع المسلح مع المنظمات الفلسطينية آنذاك. 
قد يكون المهم هنا، في "توازن الرعب" هذا في الصلاحيات بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، ان كليهما طليق اليدين في مهلة تأليف الحكومة. يتوازيان في مسألة دستورية بدأت تتكشّف في سابقة «المسودة المبدئية». يفاخر الحريري - كما اي من اسلافه في منصبه خصوصاً منذ عام 2008 كون المشكلة لم تتبدَّ في الحقبة السورية - بأن احداً، اياً يكن، ليس في وسعه تقييده بمهلة محددة لتأليف الحكومة، ما دام الدستور لم يربطه بهذا القيد واطلق يده الى ما شاء الله في امرار الوقت الى ان يعتذر. ومن غير الملزم والحتمي اعتذاره حتى. ساهم الحريري ايضاً في اجتذاب اسلافه الرؤساء السابقين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام الى دعم هذا الحق الذي احالوه صنو الطائفة السنّية، على نحو يجعل التفريط به او التشكيك حتى موازياً للتعرّض لها، بغية استنفار العصبية السنّية في وجه رئيس الجمهورية هذه المرة. 
في المقابل، لعون صلاحية مماثلة لتلك التي يتحصن بها الحريري، هي انه غير ملزم في اي حال الموافقة على اي صيغة يقترحها عليه الرئيس المكلف. شأن الاخير لا مهلة مقيِّدة له لتأليف الحكومة، لا مهلة مقيِّدة ايضاً لرئيس الجمهورية لتوقيع مرسوم التأليف. لا قيد يرغمه على الموافقة على ما يقترحه عليه الرئيس المكلف لا ينسجم واقتناعاته، المدعو الى ان يتقدّم - مرة بعد اخرى - باقتراح صيغة تلي صيغة لتشكيلة حكومية، الى ان يوافق عليها رئيس الجمهورية عندما يجد - في الوقت المفتوح - ان الأوان قد حان لتوقيعها، او ان هذه تلائم معاييره للحكومة الجديدة. وهو ما يقتضي ان يفعله الحريري بعد «المسودة المبدئية». ولا مناص له منه.


ليست الفقرة 4 من المادة 53 وحدها احدى الصلاحيات المتينة والصلبة التي لا يزال رئيس الجمهورية يستخدمها. بل قد يكون عون احد قلة بين اسلافه يختبر تأثيرها وفاعليتها. هي بذلك مكمّلة للصلاحيات الدستورية الصلبة والمتينة ايضاً التي لا تزال في حوزة رئيس الجمهورية، كتوقيع المراسيم العادية التي تقتصر على رئيس مجلس الوزراء والوزير او الوزراء المختصين ولا تمر في مجلس الوزراء. من دون موافقته على هذا الطراز من المراسيم، يتعذّر اصدارها ونشرها. وهي صلاحية للرئيس، وتوقيعه مقيّد لرئيس مجلس الوزراء والوزير او الوزراء المختصين، على نقيض المادة 56 التي تلزم رئيس الجمهورية مهلة 15 يوماً لتوقيع المراسيم التي يكون اقرها مجلس الوزراء، على ان تصدر وتنشر بعد انقضاء المهلة دونما الحاجة الى توقيع رئيس الدولة.
قد لا يكون تعذّر التأليف بدأ بأزمة صلاحيات وتنازع على تفسيرها والاجتهاد فيها في نطاق علاقة كل من الرئيسين به. على انه الآن بات جزءاً لا يتجزأ منه.