لا شك أن هناك غرابة في طريقة تعاطي حزب الله وحلفائه مع المحكمة الدولية. من يبحث في بعض الكواليس السياسية المتابعة لمسار المحكمة وما سينتج عنها على الصعيد اللبناني، له أن يستغرب ما يجري التداول فيه أو متوقع. ربما إنها قدرة حزب الله على تحويل الأعباء إلى فرص، وقلب فرص الآخرين إلى أعباء عليهم. هذا ما حصل تماماً في علاقة الرئيس سعد الحريري مع المحكمة الدولية وما سيصدر عنها. قبل فترة، قال الحريري في مجلس خاص إن المحكمة قد تدفع حزب الله إلى بعض التواضع حكومياً وغير حكومياً. ما يؤدي إلى تعزيز موقعه في معادلة التسوية التي أنجزت في العام 2016، وكان طرفها الأضعف.
وصل كلام الحريري إلى حزب الله، الذي خرج أمينه العام السيد حسن نصرالله موجهاً رسالة قاسية إلى الجميع بوجوب عدم اللعب بالنار. وهكذا سحب الحزب أي مفاعيل للمحكمة ومندرجاتها. منذ اليوم الأول لتشكيل المحكمة وحزب الله يجيد التعاطي معها على قاعدة إفراغها من مضمونها. تسريبات دير شبيغل وقتها، على الرغم من أنها شكّلت صعقة سياسية وأمنية، إلا أن المستفيد الأول منها كان الحزب. لقد استطاع تبرير تسيير المحكمة، التي تعمل على التسريب غب الطلب. فشنّ الحزب، يومها، هجوماً كاسحاً أجبر خصومه على التراجع. واليوم، يتكرر السيناريو نفسه، وتجلى ذلك في موقف الحريري بعد حضوره افتتاح جلسات المرافعة الختامية.
كان الحريري مستعجلاً صدور قرار المحكمة. اليوم أصبح يفضّل عدم صدوره، ويراهن على بقاء الستاتيكو. لأنه غير قادر على التماشي مع القرار أو الحكم الذي سيصدر. سيكون لذلك حرج كبير. ولهذا، يفضّل ان يتوقف زمن المحكمة، للحفاظ على رئاسة الحكومة ومندرجات التسوية. نجح حزب الله مجدداً في إفراغ المحكمة من مضمونها لبنانياً، واستبعاد مدى تأثيراتها على الداخل. وأكثر، أوصل الحريري إلى نقطة نعي المحكمة وأهدافها من بابها. كأن الحزب يوحي بأن الحريري إذا ما خُيّر بينها وبين الحكومة، فهو يختار الثانية.
وللمفارقة، إن ما صدر عن الحريري تزامن مع استكمال التصعيد من جانب الحزب، الذي وجّه رسالة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، تؤكد دعم الحزب له ولخياراته. وهذا توجه ينافي كل التوقعات التي كان يراهن عليها رئيس الحكومة سابقاً بشأن إمكانية تدخل الحزب والضغط على رئيس الجمهورية للضغط على رئيس التيار الوطني الحر جبرا باسيل بهدف خفض سقف الشروط. هذا لم يحصل، بل حصل العكس. والنقطتان لا تنفصلان عن الموقف الذي أطلقه عون بأنه لم يعد مستعجلاً تشكيل الحكومة. هو يستهدف بكلامه الحريري ولا أحد غيره. يتقن حزب الله فنّ إدارة السياسة بسلاح الخصم. كان يعلم أن الحريري أكثر المستعجلين للتأليف، على الرغم من ادعائه أنه غير مستعجل، فواجهه بسلاحه، وبعدما كان عون أكثر المستعجلين أيضاً خرج ليعلن عدم استعجاله. وهذا من شأنه أن يحرج الحريري ويجبره على تقديم التنازل.
تنازل الحريري أصبح منتظراً أكثر من أي وقت مضى، وفق البعض في الكواليس. وهو قد يستند إلى لحظة إقليمية، ستدخل فيها عوامل كثيرة، منها المؤتمرات، ومنها دخول باريس على الخطّ من خلال الدعوة إلى الإسراع في تشكيل الحكومة، إلتزاماً ببعض المواقيت والمواعيد المرتبطة بالمؤتمرات. والذريعة ستكون جاهزة، وهي الحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي. يتحدث بعض المقتنعين بتنازل الحريري أنه سيكون مستعداً لمنح القوات 4 وزارات بينها وزارة دولة، ومنح الحزب التقدمي الاشتراكي وزيرين والثالث لطلال ارسلان. وهم يعتبرون أن هذا الكلام بدأ الحريري يتداول به مع بعض المحيطين به على قاعدة تجاوز العقد والإقدام على خطوة جريئة، لأن البلد أهم من كل تلك الحسابات.
هناك من يستدل إلى إمكانية تراجع الحريري بنقطتين، الأولى استعار المعركة القواتية العونية، والسقف المرتفع الذي تحدث به جعجع في قداس الشهداء. ويعتبرون أن هذا الكلام جاء بهدف تطويق الحريري ومنعه من تقديم أي تنازل. والثانية تتعلق باشتعال الاشتباك الاشتراكي العوني، على خلفية نقل الموظفين في الإدارات. ومن يطّلع على خبايا الأمر، يعرف أن الحريري هو من طالب الوزير مروان حمادة بنقل هيلدا خوري وتعيين مكانها أمل شعبان، إبنة مستشاره للشؤون الروسية جورج شعبان. فلجأ التيار الوطني الحر إلى سياسة انتقامية ضد الاشتراكي وموظفيه. فيما التزم الحريري الصمت، ولم يساند الاشتراكي. وهذا مؤشر على ما سيأتي لاحقاً، وفق البعض.