في الثلاثينات، مع صعود الحركات الفاشيّة في أوروبا، ظهرت أحزاب وحركات في منطقتنا تنسج على منوالها. «الحزب السوريّ القوميّ» في لبنان و «مصر الفتاة» في مصر وشبيبة «الفتوّة» في العراق...
هؤلاء اختاروا أربعة أعداء لهم «صدف» أنّهم كانوا، هم أنفسهم، أعداء الفاشيّين الأوروبيّين: الانتدابات والاستعمارات البريطانيّة والفرنسيّة. اليهود. الشيوعيّين. الحياة السياسيّة الديموقراطيّة.
الآن، وبغضّ النظر عمّا إّذا كانت الشعبويّات ستؤدّي إلى فاشيّات أم لا، وهو نقاش حارّ، فالواضح أنّ منطقتنا لا تكتم التأثّر بهذه الشعبويّات مثلما تأثّرت قبلاً بالفاشيّة. هذا جزء من ترابط عالمنا، لا سيّما اليوم في ظلّ العولمة. أمّا الوجه الأوضح لهذا التأثّر فهو انتعاش ظاهرة الزعيم القائد – الأب المعصوم. أشخاص، عسكريّون أو مدنيّون، أقلّ من عاديّين، وغالباً أقلّ كثيراً، إلا أنّهم لا يُصوَّرون بأقلّ من مخلّصين أفذاذ عاش التاريخ طويلاً موعوداً بهم.
الأعداء الذين اشترك بعضنا مع الفاشيّة الأوروبيّة في معاداتهم تغيّروا، أو تغيّر التعبير عن العداء لهم. فالانتدابات والاستعمارات ولّت، و «اليهود» صارت معاداتهم تُرتّب مسؤوليّة على الحكّام بعد نشأة دولة إسرائيل وتاريخ الحروب معها، والشيوعيّة «المخرّبة» لم تعد تستطيع «التخريب» بعد انهيار المعسكر السوفياتيّ وتضاؤل حجم الأحزاب الشيوعيّة، أمّا الديموقراطيّة فلم يعد أحد يقول، لا هناك ولا هنا، إنّه ضدّ الديموقراطيّة. طبعاً، يبقى في هذه البيئة الفكريّة والشعوريّة الكثير من كراهية الغريب ومن مناهضة الساميّة ومعاداة الديموقراطيّة وبغض الشيوعيّة، إلا أنّ التعبير الصارخ عن ذلك سيبدو اليوم وقحاً أو مُورّطاً لصاحبه وأحياناً دونكيشوتيّاً بحتاً. تعالوا مثلاً نتخيّل أن بشّار الأسد، المحميّ بالروس والإيرانيّين، يخوض حرباً عالية النبرة على «الأجانب»، أو على «اليهود» فيما يعاد العمل باتّفاق «فضّ الاشتباك» الذي عقده أبوه، حافظ، عام 1974، مع إسرائيل.
العدوّ اليوم هو الإسلاميّون، وبالتالي إرهابهم. هذا، بدوره، ينهل من خُواف الإسلام (الإسلاموفوبيا) الضارب في الغرب. يتغذّى منه ثمّ يغذّيه. الملحق بهذه العداوة، والمتمّم لها، هو حقوق الإنسان. إنّها توضع على نحو تناحريّ في مقابل السيادة الوطنيّة، أي القدرة على البطش بالسكّان من دون رقابة أو ردع خارجيّين. أيضاً البُعد الكونيّ حاضر هنا بقوّة: فحقوق الإنسان مُعطى يرفضه ويمجّه ترامب وبوتين وأوربان وأضرابهم. إنّهم يضعونها في مقابل السيادة الوطنيّة والقوميّة فيتحفّظون على جميع الروابط العابرة للحدود، لا سيّما منها الاتّحاد الأوروبيّ الأكثر تشديداً على حقوق الإنسان. في هذا المعنى، تشكّل واحديّة العداء للإسلاميّين في يومنا هذا أبرز صيغ العداء للديموقراطيّة.
إنّها ما يمكن قوله، بل ما يُحتفى بقوله، للتعبير عمّا لا يمكن قوله ولا يُحتفى بقوله.
هل هذا يعني تعاطفاً مع الإسلام الراديكاليّ وغضّ نظر عن إرهابه؟ بالقطع، لا. لكنّ نقد الاحتلالات الأجنبيّة في الثلاثينات لا يقود إلى تأييد الأشكال القوميّة التي سادت في معارضة تلك الاحتلالات. بالمعنى نفسه فالموقف من الإسلاميّين وإرهابهم لا يقود إلى الوقوف في صفّ نقّادهم هؤلاء ممّن لا ينقدون إلا بالسلاح. فإذا كان وصف المقموع ضرورة نظريّة وعمليّة، فوصف القامع ضرورة نظريّة وعمليّة أكبر. والقامع يفسّر المقموع أكثر ممّا يفسّر المقموعُ القامع. فهؤلاء الذين يمسكون بمفاتيح السجون، يقايضون إرهاب الإسلاميّين بإرهاب أكبر حيال المجتمعات التي يحكمونها، ويبادلون استبدادهم بتوطيد استبداد يحوّلهم طواطم معبودة، كما يقابلون تخلّفهم القديم بفرض عبوديّة حديثة على رعاياهم. أمّا العلاقة بالعالم التي يقطعها الإسلاميّون، فلا يعاود هؤلاء ربطها إلا مع أسفل السافلين في هذا العالم.