في وقت يُحاط البلد بتهديدات من كل الاتجاهات الداخلية والخارجية، وترسم علامات استفهام خطيرة حول مصير المنطقة برمتها وكياناتها السياسية والجغرافية. وهو أمر استشعرت خطورته جهات غربية اميركية واوروبية، وتحديداً فرنسية والمانية، عبّرت عن ذلك بسلسلة تحذيرات ونصائح متتالية الى المسؤولين اللبنانيين لتحصين استقرارهم وحماية ساحتهم، وتجنيبها تداعيات اي تطورات عسكرية محتملة، خصوصاً في الجانب السوري في ظل الاستعدادات الجارية لإشعال معركة إدلب.
حشد أساطيل
وكشفت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية» انّ الاسابيع المقبلة شديدة الدقة والخطورة في الشرق الاوسط، وأعربت عن خشيتها من انزلاق الوضع في هذه المنطقة الى مستويات خطيرة، في ظل استعراضات القوة التي بلغت ذروتها مع حشد الاساطيل الاميركية والروسية في البحر المتوسط. وكذلك مع إجراء روسيا لمناورات عسكرية غير مسبوقة من حيث حجمها وضخامتها منذ أيام الاتحاد السوفياتي.
وتحدثت المصادر عن عاملين آخرين، قد يدخلان عناصر توتير اضافية، يتمثّل الأول باقتراب الموعد الذي حددته واشنطن لجرعة جديدة من العقوبات على ايران، والتي وصفتها الادارة الاميركية بأنها ستكون «عقوبات مشددة وقوية جداً» في محاولة للضغط عليها والحد من نفوذها ودعمها للمنظمات التي تعتبرها واشنطن إرهابية وفي مقدمتها «حزب الله». وأمّا الثاني، فهو بدء التحضير لإنشاء «ناتو عربي» في تشرين المقبل، وفق ما أعلنت إدارة دونالد ترامب مطلع الصيف، من أنها بدأت العمل على تنفيذ مشروع تشكيل نسخة عربية لـ«حلف شمال الاطلسي»، بهدف التصدي للنفوذ الايراني ومكافحة التنظيمات الارهابية في المنطقة. وتندرج في سياق تنفيذ مشروع الاجتماعات العسكرية التي عقدت خلال الاسبوع الجاري في الكويت، في حضور رؤساء أركان دول الخليج ومصر والاردن وقائد القيادة المركزية الاميركية الجنرال جوزف فوتيل.
ورداً على سؤال عن الاحتمالات، إكتفت المصادر الديبلوماسية بالقول: في ظل هذا الوضع، يصعب تحديد مسار الأمور، لكنّ الوضع يبعث على القلق.
واشنطن: إنتبهوا
في سياق أميركي عكس عائدون من الولايات المتحدة الاميركية، متابعة اميركية للوضع اللبناني، بوجهَيه السياسي والأمني. وأكد هؤلاء انهم سمعوا من مسؤولين اميركيين ما يشير الى حرصهم على لبنان واستقراره السياسي وانتظام مؤسساته الدستورية وتشجيعهم على تشكيل حكومة لبنانية، من دون ان يبدوا اي اشارة او نيّة في التدخل المباشر في هذا الشأن اللبناني.
ووفق ما نقل عن المسؤولين الاميركيين، فإنّ الوضع الامني في لبنان ما زال يشكل أولوية اساسية لدى الولايات المتحدة، وانّ واشنطن تنظر بارتياح وبعين التقدير الى الجهود التي تبذلها الاجهزة الامنية اللبنانية للحفاظ على الاستقرار الامني للبنان، ومكافحة التنظيمات الارهابية. وانها تضع في أولوياتها ايضاً استمرار تقديم الدعم الكامل للجيش اللبناني لتمكينه من القيام بمهماته. ونقل العائدون انّ ما يهمّ واشنطن هو ان يبقى لبنان آمناً ومستقراً من الناقورة حتى النهر الكبير، والّا تتجدد فيه اي عوامل او توترات تُذكّر بالحرب الاهلية التي عاشها هذا البلد في السبعينات.
ونقل العائدون من واشنطن انّ المسؤولين الاميركيين ينظرون الى «حزب الله» كمنظمة إرهابية معادية، تشكّل خطراً على لبنان وعلى الاستقرار في المنطقة، الّا انّ اللافت للانتباه هو انّ هؤلاء المسؤولين لم يتحدثوا عن أي «فيتو» أميركي على إشراك الحزب في الحكومة. وقال احد هؤلاء المسؤولين رداً على سؤال مباشر حول مشاركة «حزب الله» في الحكومة: سبق وأكدنا موقفنا بأنّ تشكيل الحكومة اللبنانية شأن لبناني.
الجدير بالذكر، انّه في الفترة الاخيرة كان هناك تشديد ملحوظ للاجراءات الامنية في مختلف المناطق اللبنانية من قبل الاجهزة اللبنانية، وبشكل مكثف وواسع من قبل الجيش اللبناني. وكشفت مصادر امنية لـ«الجمهورية» انّ جانباً من هذه الاجراءات مرتبط بإحياء ليالي عاشوراء في الجنوب والبقاع وبيروت والضاحية الجنوبية، وامّا الجزء الأساس فمرتبط بتدابير احترازية في الداخل وعلى الحدود، وتحديداً الحدود اللبنانية السورية حيث الأجواء التي تشهدها المنطقة تفرض التحسّب لأي طارىء، او لأي احتمالات وتطورات يمكن ان تستغلها المجموعات الارهابية لإحداث بلبلة.
مسؤولون مستقيلون
داخلياً، هناك جفاف سياسي يضرب كامل المشهد الداخلي، يفتقد الرطوبة الملينة للمواقف وللتصلّب في عروق بعض الرؤوس الحامية من هذا الاتجاه او ذاك، وصار الحديث عن تأليف الحكومة وتعثّره مخجلاً، والصراع على الحصص جامداً على احتدامه، والمتصارعون يتلهون بـ«لعبة الاحجام» والفيتوات المتبادلة، لعبة مستمرة تبدو بلا نهاية. وامّا أصحاب القرار فماضون في إجازاتهم، لا بل في استقالتهم، فيما الازمات تتوالد: توطين، نازحون، بطالة، إهتراء اقتصادي، إرتباك مالي، عوز معيشي، تعفّن إداري، ترهّل كهربائي، إحتضار هاتفي، جشع تجّار، سيادة فساد، نار أسعار واقساط مدرسية تكوي الفقراء.. وهناك كثير من هذه السلسلة التي لا تنتهي... كلها تبدو وكأنها تحضّر الأرضية لانفجار اجتماعي، وامّا المواطن فيقترب من ان يعلن كفره بطبقة سياسية تمتطيه لحظة الانتخابات، وامّا عند الازمات فتلقي به على قارعة الاهمال.
إفلاس... وتسريح عمّال
هذه الاجواء السوداء اقتصادياً ومعيشياً واجتماعياً، يسير في موازاتها تحذير شبه يومي للمسؤولين الرسميين والسياسيين بأنّ الوضع النقدي في خطر. وقال مصدر مالي مسؤول لـ«الجمهورية»: لا خوف حالياً على الوضع النقدي، فالإجراءات التي تتخذها الجهات المعنية بهذا القطاع ما زالت تضع التحصينات امام الوضع النقدي وتحمي استقراره، وضعنا ليس في أحسن أحواله، هو وضع دقيق لكنه مَمسوك وتحت السيطرة. إنما على المدى البعيد، اذا استمر وضع البلد على ما هو عليه، يصبح الخوف جدياً على هذا القطاع. والكرة في ملعب السياسيين لمنع انهيار هذا القطاع، الذي يعني انهياره وصول البلد الى الانتحار.
في السياق نفسه، تتكشّف يوماً بعد يوم الآثار السلبية لسلسلة الرتب والرواتب بالطريقة التي أقرّت فيها، من دون الاصلاحات المطلوبة التي تمنع التضخم، ولا تذيب الزيادات التي أعطيت للموظفين، ولا تشكّل سبباً لضرب المؤسسات والشركات وإفلاسها، بل تشكّل رافداً للخزينة يُقلل من نسبة العجز الذي تعانيه وبلغ ارقاماً خيالية. الّا انّ ما حصل هو العكس، وبدل ان تزيد واردات وزارة المالية تراجعت مداخيلها بصورة خطيرة عمّا كانت عليه قبل إقرار السلسلة.
وعلمت «الجمهورية» من مصادر موثوقة انه منذ إقرار السلسلة وحتى اليوم، تساقطت مئات الشركات ضحايا لها، حيث أفلست وتوقفت عن العمل، وصار العاملون فيها في الشارع، وهذا الحبل مستمر حالياً، حيث تتجه مؤسستان كبيرتان في البلد الى التصفية والافلاس، وكلاهما تحويان ما يزيد عن 1200 موظف وعامل.
خبير إقتصادي
وأمّا السبب لهذا التساقط السريع، فهو كما يقول خبير اقتصادي لـ«الجمهورية»، انّ هذه السلسلة بالطريقة التي أقرّت فيها لم تحسب جيداً، بل تمّت بصورة عشوائية، الّا أنها ضربت الدورة الاقتصادية في البلد. فلنعد الى البداية، ففي لحظة إقرار السلسلة وإعطاء الزيادات للموظفين، دخل البلد في منحنى خطير، إذ مع ارتفاع الرواتب سارعَ آلاف الموظفين من مدنيين ومعلمين وعسكريين الى طلب قروض سكنية، وضخامة الارقام صارت فلكية وبالحجم الذي فاقَ قدرة مصرف لبنان على دعم فوائد قروض السكن، فلجأ فوراً الى وقف برنامج دعم فوائد قروض السكن. والنتيجة الفورية لهذا التوقف، تَجلّت بتوقف الجزء الاساس من الدورة الاقتصادية في لبنان حيث توقف البناء، الذي يعد في اي دولة في العالم بأنه أهم قاطرات الاقتصاد.
وبحسب الخبير، فإنّ ثمة تأثيراً غير مباشر سبّبته السلسلة وأدى الى خروج ما يزيد عن مليار دولار الى تركيا وحدها، ذلك انّ الآلاف من اللبنانيين، وبعد حصولهم على الزيادات قاموا برحلات سياحية الى تركيا، وصرّفوا العملة الصعبة في لبنان وأخرجوها من السوق اللبناني، وذهبوا وأنفقوها في السوق التركي.
وقال الخبير المذكور: الوضع سيكون آيلاً للسقوط أكثر، اذا ما استمر الفراغ الحكومي، ذلك انه ما زالت هناك إمكانية لاحتواء الوضع او تجميده ووقف انهياره اذا استقامت الحياة السياسية في لبنان وخرج المسؤولون من حلبة الصراع على المغانم والمصالح، وتشكلت حكومة، وصار من الغباء ان ننتظر ان يمدّ الخارج اليد للبنان لإنعاش اقتصاده، فكل العالم مأزوم بمشكلاته وعجز اقتصادياته، وامّا في لبنان فلم يعد أمامه سوى منقذ وحيد هو قطاع النفط الذي يشكّل المنفذ الوحيد المتبقّي امام لبنان لإنقاذ اقتصاده، ولكن ما استجدّ حول هذا القطاع، والحديث عن تأخير في عمليات التنقيب وعن نية بعض الشركات الخروج من اتفاقيات التنقيب، وعن عرقلة اسرائيلية لهذا القطاع ومنع لبنان من الاستفادة من ثروته في النفط والغاز، أمر خطير، ويثير الخشية من استمرار الازمة الاقتصادية في لبنان الى أمد طويل جداً.
لا إيجابيات
وسألت «الجمهورية» مرجعاً كبيراً عمّا استجد حول ملف النفط، فقال: الاسرائيليون يعرقلون، يريدون قرصنة النفط والغاز، إستعَنّا بالأميركيين، وحتى الآن لم نتلقَ اي نتيجة ايجابية، بل بالعكس يريدون إقناعنا بما لا يخدم مصلحتنا وحقنا الكامل في مياهنا ونفطنا وغازنا، بل يخدم مصلحة اسرائيل. والامور ما زالت متوقفة هنا.
الضريبة المقطوعة
على صعيد اقتصادي، شكّلت مهلة نهاية ايلول الجاري لتطبيق الضريبة المقطوعة بالنسبة الى الشركات والمؤسسات والمهن الحرة، نقطة متابعة بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري ووزير المال علي حسن خليل. وأوفد عون رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان الى بيت الوسط ووزارة المال من اجل المشاركة في صياغة المخرج الذي تم التفاهم بشأنه، وقضى بتأجيل تطبيق هذه الضريبة الى العام 2020.
ونقل كنعان أجواء لقائه مع الحريري الى رئيس الجمهورية، وقالت مصادر لـ«الجمهورية» انّ الموضوع الحكومي كان محلّ بحث أيضاً بين الحريري وكنعان، وثمّة حديث عن مخارج تجري بلورتها، ومنها استعادة رئيس الجمهورية وزارة العدل على ان تكون لـ»القوات اللبنانية» حقيبة بديلة منها.