الأزمة الحكومية، وحالة الفوضى التي تعيشها البلاد على كلّ الصعد، تبدو مناسبةً لإمعان القوى السياسية في تحويل مؤسسات الدولة والقطاع العام إلى أسلحة بوجه خصومها ومكاناً لتنفيس الحقد الطائفي والمذهبي والصراع على الحصص بين القوى السياسية التي تدّعي تمثيل مصالح طوائفها، فيما هي تجيّر مصالح الطوائف والأفراد والبلاد لمصالحها الذاتية.
فـ«المسخرة» التي يرتكبها كلّ من التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي منذ أيام، بتحقير مبدأ الوظيفة العامة والقطاع العام، عبر طرد كل جهة موظّفين يتبعون للطرف الآخر، تكاد تكون غير مسبوقة في لبنان بتاريخه المليء بالفوضى والمحاصصة، ولم تصل الأمور إلى هذا الانحطاط في مؤسسات القطاع العام، ربّما منذ الاستقلال، وحتى في زمن الحرب الأهلية.
بدأت الحكاية عندما اتخذ وزير التربية مروان حمادة، قراراً بإعفاء الموظفة في وزارة التربية هيلدا خوري من إحدى مهماتها في الوزارة. ومع أن الاشتراكي وحمادة يتذرّعان بأن خوري كانت تشغل أكثر من منصب في الوزارة خلافاً للقانون، وأن قرار الوزير هدفه إداري تنظيمي، إلّا أن الخطوة لا تخرج عن سياق الصّراع المستمر بين العونيين والاشتراكي في المؤسسات العامة، وصراع النفوذ داخل وزارة التربية تحديداً، التي يشتكي الاشتراكيون من أن نفوذ النائب، وزير التربية السابق، الياس بو صعب لا يزال هو الأكثر تأثيراً فيها.
وأمام خطوة الاشتراكي الكيدية، لم يجد العونيون سوى خطوة لا تقلّ انحطاطاً عمّا قام به حمادة، عبر إصدار وزير البيئة طارق الخطيب قراراً بنقل مدير محمية أرز الباروك نزار الهاني، المحسوب على الاشتراكي، إلى مهمات أخرى في الوزارة، فيما نُقل الموظّف في مؤسسة كهرباء لبنان رجا العلي إلى مهمات أخرى أيضاً في المؤسسة. هكذا إذاً، يفترس العونيون والاشتراكيون مؤسسات الدولة، ويقضمونها من أمام المواطنين العاديين رويداً رويداً، يفرضون تقاسمها بالقوّة، ويثبّتون انقسامها بالفعل، وكأن المطلوب إعلان موت ما بقي من هيكل الدولة المركزية، وحرمان المواطنين إياها نهائياً، لمصلحة تفرّد كلّ ديك... على مزبلة!
في سياق آخر، لم تدفع العرقلة الحكومية ومرور الوقت على تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، برئيس الجمهورية ميشال عون إلى التراجع عن مواقفه. أمام العرقلة، يبدو عون أكثر إصراراً على ما طرحه رئيس التيار الوطني الحرّ جبران من «معايير» في تشكيل الحكومة، بعد تشكيلة رفع العتب التي قدّمها الحريري أخيراً.
ورفضُ عون للشروط التي تريد تكبيله لم يعد سرّاً. فرئيس الجمهورية بات واضحاً أخيراً ولا يخفي أمام زوّاره أن المعرقلين يسعون إلى ضرب العهد وإيقاع الضرر به بالتأخر بالتشكيل، «لكنّني لست مستعجلاً، ولن أتراجع»، يقول الرئيس.
في المقابل، تبدو لعبة عضّ الأصابع مفيدة للحريري، الذي يدرك «ما تبغاه» السعودية، من منع التشكيل بشروط عون أو بالمعادلات الجديدة، لكنّه يحرص أيضاً على رمي مسؤولية العرقلة على فريق عون، من دون أن يتبنّى المطالب السعودية في العلن. ويستفيد الحريري من حالة الجمود الإقليمي، ليؤخّر التشكيل بالتماهي مع رغبة السعوديين، وفي نفس الوقت، منع فريق عون وخصومه الآخرين من تغيير المعادلة نهائياً في آلية تشكيل الحكومات في ما بعد الطائف، مستغلّاً أيضاً عدم رغبة الفريق الآخر في الصدام الكبير مع السعودية والأميركيين عبر البحث عن بديل له لتولّي رئاسة الحكومة.
هو إذاً سباق «من يصرخ أوّلاً؟» بين الحريري وعون، وما يمثّل كل منهما في السياسة الإقليمية والدولية، في الوقت الذي تدخل فيه الأزمة السورية خواتيمها و«صفقة القرن» بداياتها. فهل بات لبنان جزءاً من معادلة الملفّات الإقليمية، وجزءاً من حلولها وأزماتها، بعد أن حُيّد إلى حدٍّ كبير طوال السنوات الماضية؟