عندما بحثت في كندا عن كتاب الفيلسوف الكندي ألان دونو الذي أثار اهتماما كبيرا في العالم العربي، فوجئت بغيابه عن عدد من المكتبات. بدا الباعة وكأنهم يسمعون عنه لأول مرة. ثم، وجدته بالطبع. والحق يقال إن الكاتب ابتكر مبكرا مفهوما مطابقا لما يسود عالمنا ككل والعالم العربي تخصيصا؛ فكتابه الذي نشر في العام 2015 ما يعني أنه كتب قبل هذا التاريخ. من الطبيعي أن تحتفل به بعض النخب العربية في ظل تدهور المنطقة المريع، بمعزل عن أن كتبا مهمة أخرى قد لا تحظى بنصف هذا الاهتمام.
فلماذا من البديهي أن يحظى، كتاب La Mediocratie أي "التفاهة"، بالاهتمام؟
بداية، لأن كاتبه معروف بنضالاته السابقة خصوصا ضد صناعة التعدين والجنات الضريبية، كنتيجة لأعماله الموثقة بدقة. ما جعله ملاحقا من قبل جماعة صناعة التعدين في العام 2008. لكنه في هذا الكتاب يقوم بنوع من التمرين الفكري حول "هذا التحدي الهائل، والغامض مع ذلك" الذي يصيبنا وجميع المعاصرين. ويقصد "التفاهة" المنتشرة. وإذا دققنا في الأمر سنجد أن لبنان قد يكون من البلدان الغارقة بالتفاهة على المستوى السياسي والسلطوي والاجتماعي والبيئي.. وكما يقول الكاتب والفيلسوف الكندي:
الأمثلة لا تنضب عن مساهمة التفاهة في فساد اللغة والأفكار والمثقفين والوسط الجامعي والاقتصاد والفن والثقافة والدولة
"إن الأمر يتعلق بـ"ثورة تخديرية"، تدعونا إلى الوسطية. الوسطية التي تعني التفكير برخاوة ورمي القناعات في القمامة لنصبح كائنات طيعة يسهل اقتيادها ومبادلتها أو ركنها جانبا. وهذا لتسيير النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي السائد والذي أوصل إلى انهيار لا محدود. أما على صعيد العالم فلقد سمح بتوحش رأس المال الذي ألغى الحدود على الكرة الأرضية دون عائق".
وضع نظام حكم التافهين ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار سياسة تمجد الاستهلاك والاحتكار وسمح لواحد بالمئة من السكان في العالم الاستحواذ على خمسين بالمئة من ثروات الكوكب. لأن السياسيين احتكروا "الشأن العام" وأبعدوا الملتزمين بالقيم الانسانية عنه.
لا تقتصر التفاهة على السياسة، بل تطال الأدب والفن ومختلف الميادين. وفي الحقيقة وجدت في هذا المفهوم ما يوصّف ظاهرة داميان هيرست (Damien hirst) المحيرة صاحب اللوحات الشهيرة التي تمثل خروفا معلبا، جمجمة، مقطعا نصفيا لبقرة، وجها نصفه عبارة عن مقطع تشريحي يظهر خطوط العضلات الحمراء، ونقاط مصفوفة وحبوب أدوية أو حبة دواء واحدة وعلى هذا المنوال. وتباع أعماله بملايين ملايين الدولارات وتتنافس على عرضها أكبر صالات العرض. فيما هو يسخر من المعجبين به!
لقد حسم التافهون معركة هيمنتهم على "السلطة" دون رصاصة واحدة ودون الحاجة إلى اجتياح الباستيل أو حريق الرايشتاغ (صعود النازية). واتخذت التفاهة الآن اسم التيار الشعبوي أو اليمين الصاعد والمنتشر والذي يهدد أكبر الديموقراطيات.
مسوغ استخدام دونو تعبير mediocre ـ أو تافه ـ "كمفهوم"، ملاحظته أن الكلمة تستخدم بالفرنسية لكل ما هو متوسط (moyen) أي كل ما هو غير متفوق وغير متدني. إنه "وسط" أو متوسط. ومع هذا لا يتخذ صفة "متوسطي" (moyennote). فهو لا يستخدم بمعنى "المتوسط" كما في الحساب، بل بمعنى التافه الذي ارتفع من منزلته الوسط إلى مرتبة السلطة.
أما نصيحته التي تقطر سخرية ومرارة: "ارموا الأعمال النظرية المعقدة، إذ يمكن لكتب المحاسبة أن تحل محلها. ولا تكونوا ذوي كبرياء ولا روحانيين ولا حتى مرتاحين، إذ تخاطرون بأن تبدو متغطرسين. خفضوا شغفكم لأنه يثير الخوف. اخفوا نظرتكم الثاقبة التي لا تطمئن، وهدلوا شفاهكم، إذ يجب التفكير برخاوة وإظهار ذلك".
أما ما هي مهارة التافه حقا؟ فهي التعرف على تافه آخر، ليتبادلا الدعم. تجنب الحماقة ليس هو جوهر الموضوع بل تزيينها برداء السلطة.
إن تخاذل الفكر النقدي هو الذي سمح بارتقاء التفاهة إلى مكانة المعيار الاجتماعي، في العديد من دوائر السلطة.
فكرة دونو الأساسية تركز على أننا نعيش نتيجة فساد الديموقراطية التام، وأنه يتوجب إعادة تسمية النظام السياسي "médiocratie" بدلا من "démocratie".
دونو يستعيد ماركس الذي تأسف باكرا جدا لفقدان المهنة معانيها وقيمتها وتحولها إلى مجرد وظيفة يمكن استبدالها بسهولة ويمكن لأي كان القيام بها. فأجهزة السلطة تعمل، بواسطة استراتيجياتها، من أجل الإبقاء على الفاعلين الاجتماعيين "عاديين". والمزعج في ذلك أنه يفرض كبت إمكانياتهم. فالتفاهة على مستوى السلطة تمنع بروز الأداء المميز والمستقيم.
أما أسباب هذا التحول فيعيدها إلى عوامل عدة في السيسيولوجيا والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي. فالحرية في منظومة التفاهة هذه لا تعني سوى الفعالية. وكنتيجة لتحول المهنة إلى مجرد وظيفة ووسيلة للعيش؛ تجعل من العامل الذي يقضي عشر ساعات يوميا في مصنع سيارات عاجزا عن إصلاح سيارته أو ينتج أغذية لا يمكنه شراؤها أو يبيع كتبا لا يقرأ منها سطرا واحدا؛ وقس على ذلك.
مجيء التكنوقراط إلى الحكم في بريطانيا دعم أنظمة التفاهة واستبدل مفهوم السياسة "بالحاكمية" والإرادة الشعبية "بالمقبولية الاجتماعية" والمواطن "بالشريك". فصار الشأن العام "تقنية وإدارة"، وليس منظومة قيم ومبادئ ومفاهيم. تحولت الدولة بكاملها إلى شركة استثمار ومجلس إدارة. التفاهة تخدرنا بلغة خبرائها الفارغة وبالاستشارات العامة وبالملخصات المكتوبة مسبقا والتي لا تفيد سوى تأييد خيارات السلطة.
وأفصح نموذج عن ذلك الدولة اللبنانية حاليا. فعندما تكون فكرة دونو الأساسية أننا نعيش نتيجة الفساد التام للديموقراطية في العالم الغربي. فماذا يمكن القول عن لبنان؟ إنه النموذج المصغر لآلية عمل التفاهة المدفوعة إلى أقصى حدودها بسبب إرادة المحتلين للدولة وقرارهم بإفشالها.
فالسلطة بين أيدي أشخاص إما "متوسطين"، يتسلقون سلم التفاهة عن طريق "الدخول في اللعبة". واللعبة السائدة على جميع المستويات الهرمية، تتمثل باحترام القواعد ظاهريا وتجاهلها التام في الكواليس من أجل فرض إرادتهم. ومن يسعى إلى وضع يده على لبنان لا يخفي أطماعه في استغلاله جسرا للوصول إلى مياه المتوسط.
المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما يشدنا إلى تحت. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل المفاهيم الكبرى
فعندما وضعت اليد على الجمهورية وفرض الرئيس "عبر انتخابه ديموقراطيا"! وأقر قانونا هجينا للانتخاب ومنحازا للسلطة الحاكمة مع حكومات توافقية أو برلمانات مصغرة تعطل المحاسبة، حل الفساد محل الدستور والقوانين وعمت التفاهة وتسيدت الشركة الاستثمارية على لبنان.
الأمثلة لا تنضب عن مساهمة التفاهة في فساد اللغة والأفكار والمثقفين والوسط الجامعي والاقتصاد والفن والثقافة والدولة ككل. يتهرب السياسيون من المواضيع المثيرة للجدل، ويقوم الباحثون بأبحاث ترضي الممولين، ويعمل الجامعيون كزبائن لدى السلطة ناهيك عن وقاحة الصحافة الصفراء. فالتفاهة لا تكتفي بتلويث الدوائر العليا في الدولة بل تمتد أذرعتها لتطال عدواها أصغر عامل يتواطأ مع فساد رؤسائه كي يتسلق السلم الاجتماعي.
اقرأ للكاتبة أيضا: مئة عام مرت على الثورة العربية الكبرى: "مكانك راوح"
هل يمكن مواجهة تفاهة التافهين؟ لا يقدم دونو أي وصفة سحرية؛ فالحرب على الإرهاب أدت إلى خدمة نظام التفاهة وجعلت الشعوب تستسلم لإرادة مجموعات وأشخاص لإحكام السيطرة على ما تبقى من حريات.
يمثل هذا الكتاب إضافة مبتكرة. لكن خلاصته قد تخيب من ينتظر منه وصفة موسعة لكيفية الخروج من هذا النظام.
المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما يشدنا إلى تحت. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، بل المفاهيم الكبرى. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل الدستور، القوانين، المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، حقوق الإنسان، التوازن البيئي، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام. وأن نعيد التلازم بين ما نفكر به أو نزعمه وبين ما نقوم به، إذ لا يمكن الفصل بينهما.