لا يسمح العراق باستنتاجات سياسية سريعة، لا في البصرة ولا في غيرها. إحراق القنصلية الإيرانية في المدينة الشيعية الأكبر، وإحراق مقار الميليشيات الموالية لإيران، له معانيه الاحتجاجية على إيران بلا شك، بوصفها الوصي السياسي على جزء كبير من المشهد الشيعي السياسي في العراق. وهو احتجاج يثبت بلا أدنى شك فشل إيران في أن تكون جزءاً من أي إنجاز ثابت ومستقر في العراق، أو جزءاً من أي نجاح للشيعية السياسية التي رعتها في هذا البلد. لكن لا ينبغي التغافل عن أن المحتجين كادوا يحرقوا أيضاً القنصلية الأميركية لولا الإجراءات الأمنية المانعة، ما يعطي التطورات معاني تتجاوز الموقف من إيران حصراً.
فجذر الاحتجاج الشعبي في البصرة، أسبابه حياتية ومعيشية أولاً وقبل كل شيء، تجلت أخيراً في مياه شرب قاتلة تُدخل أكثر من 1200 حالة تسمم إلى المستشفيات يومياً.
وهو تطور شعبي هز عموم البيئة السياسية الشيعية في العراق بكامل أطيافها كونه بدا قابلاً للتمدد إلى محافظات ومدن أخرى والتحول إلى انتفاضة شاملة في مواجهة عموم الطبقة السياسية. والحال، دُفعت كل المكونات الشيعية إلى إعادة حساباتها وخلط أوراقها مجدداً، وإعادة التموضع والتحالفات في معركة تشكيل الحكومة.
المفارقة أن مشهد البصرة الذي بدا في الإعلام موجهاً ضد إيران، شكل فرصة للتقارب بين رجل إيران في العراق، هادي العامري، زعيم كتلة «الفتح» البرلمانية ورئيس ميليشيا منظمة بدر، ومقتدى الصدر زعيم كتلة «سائرون»، الأكبر في البرلمان العراقي، والحليف «السابق» لرئيس الوزراء حيدر العبادي والسياسي العراقي الذي يحاول بناء هوية وطنية عراقية مستقلة تحديداً عن إيران.
قبل أحداث البصرة كان تحالف الصدر والعبادي وعمار الحكيم وإياد علاوي، يسعى لأن يستمر العبادي رئيساً للحكومة الجديدة، لينقلب الصدر باتجاه معاكس تماماً، بادئاً البحث عن تفاهمات مع جماعة إيران.
ما الذي حصل؟
بالنسبة للصدر، ما كان ممكناً تحييد العبادي عن كونه أحد المسؤولين عن الفشل المشكو منه في البصرة، من موقعه كرئيس للحكومة، وكان لا بد من تقديمه كبش فداء بغية ضبط الشارع وإدارة الكتلة الغاضبة.
وما سهل الاتجاه (غير النهائي) للتضحية بالعبادي أنه لم ينجح في الحفاظ على كتلته المنتخبة، والتي عانت من انسحابات واستقالات أضعفتها وأضعفت معها الجبهة التي يراهن الصدر عليها. كان آخر التشققات الجدية في كتلة العبادي، خروج مستشار الأمن القومي ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض منها، ما دفع العبادي لإقالته من رئاسة الحشد ومحاولة عرقلة طموحه لتولي منصب رئاسة الوزراء. كما أن العبادي، من وجهة نظر الصدر، بالغ في الالتصاق بالموقف الأميركي في العراق، وكان آخر مواقفه الإعلان عن التزام بغداد بتطبيق العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران.
بهذا المعنى يبدو الصدر أقرب للتخلي عن العبادي، في لحظة ضعف الأخير، متلقفاً في المقابل إقبال حلفاء إيران عليه، واستعدادهم لقبول تصوره للحكومة المقبلة. ففي أول رد فعل على المظاهرات الصادمة لإيران في البصرة، بعث العامري برسالة للصدر قال فيها إنه «مستعد لاعتماد شروط المرجعية في تسمية رئيس الوزراء المقبل، وسحب ترشيحه مقابل عقد اتفاق بين «الفتح» (العامري) و«سائرون» (الصدر) يفضي لتسمية مرشح تنطبق عليه شروط المرجعية».
بالطبع تسعى إيران لتحويل أزمة البصرة إلى فرصة. فهي تغري الصدر بالتجاوب مع مشروعه للحكومة المقبلة وشروط المرجعية لتشكيلها من «غير المجربين» وممن هم خارج دائرة التحاصص الحزبي، مقابل أن تنتهي كلياً من حيدر العبادي.
في المقابل يسعى الصدر لانتزاع مساحة استقلال أكبر عن إيران في الحكومة العراقية وفي سدة رئاستها. ففي مقابل مساعدة أحزاب إيران على امتصاص صدمة البصرة، قد ينجح في إيصال من يريد إلى رئاسة الحكومة، وهذه نتيجة عظيمة بالنسبة له ولو كان ثمنها التضحية بالعبادي.
مناورة الصدر بالغة الخطورة، فيما لو ضحى بالعبادي ولم ينتزع الحد الأقصى من شروطه لتشكيل الحكومة، وهي الابتعاد عن منطق المحاصصة الحزبية والفساد في تشكيل الحكومة، واختيار شخصية لرئاستها من خارج النادي السياسي التقليدي منذ 2003. فشل المناورة سيحولها إلى فرصة لإيران لالتقاط أنفاسها وتحسين موقفها وموقعها في العراق، بعد تراجعات متتالية أصابتها منذ خروج رئيس الحكومة السابق نوري المالكي من الحكم وحتى الآن.
وهنا ملاحظة لافتة، تنسجم مع واقع أن التناقضات ليست جديدة على تجربة الصدر. فشروطه وشروط المرجعية الشيعية، السيد علي السيستاني، لرئاسة الحكومة، لا تنطبق على العبادي، وهو الحزبي في حزب الدعوة والسياسي غير التكنوقراطي وأحد أبناء النادي المُجرب، فكيف كانت الأمور قبل البصرة تسير باتجاه إعادة ترشيحه؟
هل كان الصدر يضمر منذ البداية إطاحة العبادي لصالح مشروع حكومة جديدة شكلاً ومضموناً تنقذ العراق، وتأخذه نحو مسارات جديدة بالتفاهم مع المرجعية وربما أبعد؟ كل جواب متسرع عن هذا السؤال هو جواب خاطئ بالضرورة.
امتحان البصرة وما بعدها سيحمل الجواب..