من منا لم يفرح، قبل أربع سنوات، برحيل المالكي وحلول حيدر العبادي مكانه، رغم أنهما من نفس الحزب الذي أثبت، بسلوك قادته ومعتقداتهم وسياساتهم، أنه حزب متخلف فاشل لا يصلح لحكم وطن تسكنه قوميات وطوائف وأديان متعددة، وفيه مئات الآلاف من المتفوقين المبدعين في ميادين السياسة والاقتصاد والعلوم والفكر والأدب والفنون، ولا يمكن قيادته إلا بنظام ديمقراطي حقيقي غير ملوث وغير مغشوش.
فإن الكثيرين منا تفاءلوا بمقدم حيدر العبادي بعد أن بشرتنا المرجعية وأميركا وإيران والفضائيات والإذاعات والجرائد والأحزاب ذات الولاء الإيراني والأميركي، كلها، بأن عهده سيكون عصر العراق الذهبي الذي سيُخرج الزير من البير، ويقطع دابر الفساد، ويدقُّ أعناق الفاسدين، كبيرِهم قبل صغيرِهم، ويسترد اللصوص الكبار الذين ضربوا وهربوا، ويسترجع لنا أموالنا التي اختلسوها، ثم يعيد إعمار الوطن، ويحرره من الوصاية المحلية والأجنبية، ويقيم فيه العدل والأمن والرفاه، فيصير حبيب الشعب الأوحد وقائده المفدى.
وكان كل شيء واقفا معه، وفي خدمته وخدمة المهمة الوطنية التاريخية التي قيل إنه جيء به لإنجازها. ولكن تأكد لنا بعد أربع سنوات من رئاسته أنهم ألبسوه ثوبا فضفاضا واسعا جدا عليه، وحمّلوه حمل طرزان وهو ليس بطرزان. فمن أول أيامه في الرئاسة قرر أن ينهج في علاقاته الداخلية والخارجية، معا، سياسة ما يطلبه المستمعون، حيث يقدم لكل عدوٍّ ولكل صديقٍ أغنيته التي يحبها، وتشرح قلبه للإيمان.
ولعل أكبر أخطائه القاتلة أنه استمسك بعروتين، لا بعروة واحدة. فلا هو ظل إيرانيا خالصا بقضه وقضيضه، كسلفه نوري المالكي، ليدعمه نظام الولي الفقيه وينجده وقت الشدة، ولا هو صار أميركيا كاملا، قلبا وقالبا، بلا خوف ولا حياء. وإنما كان مع الصيف ومع الشتاء، مع الرحمن ومع الشيطان، مع السارق ومع المسروق، مع القاتل ومع المقتول. بعبارة أوضح، إنه أراد أن يحمل عشرا من البطيخات بيد واحدة.
حتى جاءته العقوبات الأميركية على إيران فأوقعته في سوء حساباته وظنونه. فقد تذاكى، وحاول مغازلة الأميركيين، واستغفال الإيرانيين وتطييب خواطرهم بضربة واحدة، فأعلن أنه “لن يُضر بمصالح العراق الوطنية لصالح إيران، ولكنه ضد العقوبات الأميركية من حيث المبدأ”.
فكان كمن سب العنب الأسود الإيراني فحق عليه العذاب. فقد اعتبره القادة الإيرانيون ناكرا للجميل، وخرج عليه حلفاؤه “الحشديّون” الذين سلحهم وأغدق عليهم ورفعهم فوق رأس الحكومة وفوق هامة القانون، وحزبُه حزبُ الدعوة في مقدمتهم، فأهدروا دمه الرئاسي، وتعهدوا بإسقاطه، وبعقابه أشد عقاب.
ثم ارتكب الغلطة القاتلة الثانية بطرده فالح الفياض من رئاسة الحشد الشعبي وتعيين نفسه بدلا عنه رئيسا للحشد الشعبي، فكان كمن أدخل رأسه في كورة زنابير.
وجاءت انتفاضة البصرة لتتخذ منها ميليشيات المعسكر الإيراني ذريعة لحربها معه، مؤكدة، على لسان القيادي في ميليشيات الحشد الشعبي، أبومهدي المهندس، أن “العبادي لم يفِ بأغلب وعوده للحشد، وتعمد عرقلة القانون الخاص به”. وأضاف قائلا إن “ما قام به من عزل لفالح الفياض من ثلاثة مناصب أمر عجيب وخطوة خطرة ونسجل اعتراضنا عليها”. و”نحن لسنا معنيين بالتجديد للعبادي”.
ثم يذهب قيس الخزعلي قائد ميليشيا العصائب إلى أبعد من ذلك، فيطالب بمحاكمته عسكريا، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة في العراق.
إلى هنا يمكن اعتبار زمن حيدر العبادي قد أصبح في خبر كان، وصار على الشعب العراقي، من اليوم، أن يبحث عن حكومة جديدة وعن رئيس جديد.
ولكن وفي هذه الفترة الصعبة المتشابكة يفاجئنا مقتدى الصدر، كعادته، بصعقةٍ جديدة من صعقاته المتعددة المتعاقبة التي لا تنتهي. فقد استدار وداس على كل تصريحاته وتظاهراته واعتصاماته السابقة ضد “الميليشيات الوقحة”، وضد الفساد والفاسدين، ليعلن أحدُ مستشاريه، النائب عن تحالف سائرون، غايب العمري، أن “تحالف سائرون توصل في مفاوضاته الحالية إلى مراحل متقدمة من التفاهمات والتقارب في وجهات النظر والآراء وتوزيع المناصب بشأن تكوين الكتلة الأكبر في البرلمان، لغرض الإسراع في تشكيل الحكومة الجديدة”.
وأكد أن “هذا التقارب وصل إلى مراحل لم يصل إليها سابقا، وخلال الأيام القليلة المقبلة سنعلن عن تشكيل الكتلة الأكبر، بالتحالف مع الفتح، وبقية الكتل الأخرى المؤتلفة معنا”.
فما عدا مما بدا يا تُرى ليُصبح هادي العامري ونوري المالكي وقيس الخزعلي حبايب مقتدى من جديد؟ ألا يعني هذا أن الله قد وفق الحاج قاسم سليماني في إعادة اللحمة والألفة والمودة بين أشبال الولي الفقيه، وإرجاع الولد الضال إلى بيت الطاعة من جديد؟
ورغم أن مقتدى أعلن أن رئيس الوزراء الجديد هو الذي ستختاره المرجعية، فإن أحدا لا يتوقع أن يكون واحدا من أصحاب الفيل.
فبكل الحسابات والمقاييس لا يمكن أن توافق المرجعية على تعيين رئيس وزراء ضعيف، أو جاهل أو غبي أو جبان أو فاسد أو قاتل أو عميل، خصوصا في أجواء ثورة البصرة وانتفاضات المحافظات الأخرى المستمرة التي تهدد بهدم الهيكل على رؤوس أصحابه أجمعين.
فالمرحلة الدقيقة الراهنة لا تتحمل رئيس وزراء كحيدر العبادي أو نوري المالكي أو إبراهيم الجعفري أو إياد علاوي، ولا أي وزير من الوزراء المعتَّقين الفاشلين، ولا حتى هادي العامري وفالح الفياض وطارق نجم وإبراهيم بحر العلوم، ولا أي واحد آخر ممن دارت وما زالت تدور حوله التقولات والشبهات والاعتراضات.
ولو كان حظ العراق اليوم أفضل من حظوظه السابقة لجيء برئيس وزراء نزيه، قوي، شجاع، مثقف، مستقل، لم يعرف عنه فساد ذمة أو موت ضمير.
وقبل هذا وذاك فإن الظروف المتفجرة المستجدة كلها تفرض على من سينتقي رئيس الوزراء الجديد أن يأتي به من خارج الشلل المتقاتلة على الهريسة وليس على الحسين.
ولكن ما فائدة أن يجيء رئيس وزراء بقوة هتلر وإنسانية نيلسون مانديلا إذا لم تطلق يده في اختيار وزرائه بنفسه، وليس بالمحاصصة الطائفية والعنصرية التي حكموا ويحكمون بها ولم يأت منها ومنهم سوى خراب البيوت؟ ثم كيف سيُمكنه اجتثاث الفساد إن كان وزراؤه من الفاسدين، أو من خدم الفاسدين؟ هذا هو السؤال.