أطلقت أحداث البصرة مرحلة جديدة في الصراع السياسي. لم تنتظر القوى والأحزاب، لا سيما الشيعية، خمود النار، أو تحقيق بعض مطالب الناس. سارعت إلى توظيف الانتفاضة. تسابقت على ذم الحكومة وهي جزء منها ومن الحكومات التي سبقت. وشنت هجوماً على الأميركيين الذين ركبت دباباتهم للوصول إلى بغداد وإسقاط نظام صدام حسين. حملت حيدر العبادي ووزراءه المسؤولية. والتقى «شريكه المفترض» مقتدى الصدر مع خصمه هادي العامري زعيم كتلة «الفتح» التي تضم فصائل «الحشد الشعبي» على مطالبته بتقديم استقالته والرحيل. ولم تتأخر رموز المرجعية في النجف أيضاً في تحميل المسؤولية لأهل الحكم والنظام. فيما لم يجن المتظاهرون شيئاً، كما في كل مرة. لم تترك رسائلهم النارية أثراً كبيراً في الطبقة السياسية التي كان يتوقع منها أن تسارع إلى التزام المهل الدستورية والتفاهم على اختيار الرؤساء الثلاثة للجمهورية والبرلمان والحكومة. اكتفى المتسابقون على مقاعد الحكم، ورعاتهم في الخارج، بتبادل الاتهامات. لم يلتفتوا إلى الحراك الذي انطلق من البصرة مطلع تموز (يوليو) الماضي احتجاجاً على انعدام الخدمات وبلوغ البطالة في هذه المدينة مستوى غير مسبوق (نحو 65 في المئة). وقد تصاعد الأسبوع الماضي بعد تسمم أكثر من ثلاثين ألفاً من الأهالي بسبب المياه الملوثة. وهاجم المتظاهرون مبنى المحافظة وإدارات رسمية وكل ما يعتبرونه رمزاً للسلطة التي يتهمونها بالفساد. وطاول غضبهم مقار فصائل «الحشد الشعبي». وكذلك أضرموا النار في القنصلية الإيرانية في البصرة. فهم يتهمون طهران بالهيمنة والمسؤولية عن شح المياه الذي ضرب مدينتهم بسبب تحويلها مجرى أنهر كانت تغذي دجلة، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الملوحة والتلوث.
«انتفاضة البصرة» لم تكن الأولى. شهدت مدن جنوب العراق طوال العام الماضي تظاهرات كانت تشتعل حيناً وتخفت أحياناً، احتجاجاً على غياب الخدمات وفرص العمل... إلى أن انفجر الوضع في الأيام الأخيرة في حركة شعبية عفوية كشفت يأس الناس ووضعهم المأسوي، وتبرمهم من الأحزاب الدينية، ورفضهم التدخلات الخارجية، خصوصاً من جانب إيران. وكان أهل المدينة التي تساهم بثروتها النفطية في تمويل الخزينة العامة بنحو ثمانين في المئة من الدخل، رفعوا الصوت مراراً مطالبين برفع الحيف والإهمال عنهم. علماً أنهم لم يخفوا، منذ إقرار الدستور الجديد للبلاد إثر الغزو الأميركي عام 2003، رغبتهم في تحويل المدينة ومحيطها إقليماً، على غرار إقليم كردستان. هم كانوا وراء الانتفاضة، وإن كثر «المندسون» المخربون والسياسيون. لم ينظمها أو يطلقها طرف من أطراف الصراع الداخلي أو الخارجي. وإن «اندس» هؤلاء وتبادلوا الاتهامات بالمسؤولية عن تحريك الشارع من أجل الضغط والتعجيل في اختيار الحكومة الجديدة وحسم مسألة الكتلة الأكبر في المجلس النيابي. وكان واضحاً أن جميع المنخرطين في الأزمة السياسية الحالية في البلاد يسعى كل منهم إلى توظيف هذه الانتفاضة لمصلحته. وما ساهم في رفع درجة التوتر والخوف من صدامات أهلية وسقوط البلاد في الفوضى أن الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية تتسابقان للفوز بسدة الحكم بخلاف التجارب السابقة التي كانت تنتهي، عبر وسطاء محليين أو غير محليين، إلى التفاهم على تسمية رئيس الوزراء وتوزيع الحصص. كان الكرد، خصوصاً الرئيس الراحل جلال طالباني، وقوى إقليمية أخرى، يؤدون دوراً في هذا المجال. ولم تكن واشنطن، كما هي اليوم، ترفع شعار مواجهة طهران، وتفرض عليها عقوبات هي الأشد والأقسى، وتسعى إلى إقامة تحالف واسع في الإقليم لمحاصرتها ودفعها إلى تبديل سلوكها. كذلك لم تكن الجمهورية الإسلامية قبل سنوات تمر في أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة كما هي حالها هذه الأيام. بل لم يكن الصراع السياسي بين تياريها المحافظ والمعتدل بمثل هذه الحدة والانقسام اللذين يهددان النظام برمته.
حلفاء إيران هاجموا رئيس الوزراء العبادي. ولحق بهم السيد مقتدى الصدر الذي يفترض أنه ورئيس الوزراء شريكان مع آخرين لإعلان أكبر كتلة نيابية لتولي تشكيل الحكومة الجديدة. لكن يبدو أن السيد يريد كعادته أن يركب موجة الاعتراضات هذه، في ما يبدو أنه سباق لملء الفراغ الذي تخليه الأحزاب الدينية. وهو ما يسعى إليه أقطاب المرجعية في النجف التواق أيضاً إلى رفع يد طهران عن السلطة والحكم وإدارة البلاد. ولكن من المبكر التزاحم على وراثة هذا النفوذ أو اقتلاعه، ليس في جنوب العراق بل في البلد كله. ومن المبكر الجزم بأن واشنطن قادرة على تغليب دورها في بلاد الرافدين على سواه من الأدوار. صحيح أن العراقيين الذين عبروا في مناسبات عدة، وفي الانتخابات البرلمانية قبل أشهر عن مزاج معاد لإيران، أكدوا الرسالة ثانية بوضوح في تظاهرات البصرة بالهتافات المعادية لها وبحرق قنصليتها ومقار الفصائل الموالية لها. لكن الصحيح أيضاً أن «الحشد الشعبي» بفصائله المتعددة الرأس ليس هو المشكلة أو العائق وحده في وجه المنادين بـ «إيران برا برا». إن غالبية القيادات الشيعية المتناحرة اليوم على موقع رئاسة الوزراء هي التي هيأت الساحة للجمهورية الإسلامية، ولا تزال تساهم في تسهيل تدخلها في الشؤون العراقية. فلا عجب مثلاً في أن تعلو الأصوات، محذرة من عودة حزب البعث وبقاياه، أو من «مندسين»، في كل مرة تتعرض الجمهورية وميليشياتها لشعارات معادية أو اعتداءات. وهي أصوات تكاد تكون كافية لاستنهاض القوى الشيعية لمواجهة «الخطر المحدق».
والواقع أن سياسة التوسع والهيمنة التي تنهجها طهران في المنطقة العربية كلها يساعد في انتشارها وحمايتها طائفة واسعة من الشيعة الذين يرون إلى أنفسهم مهددين كأقلية في بحر السنة الواسع في الإقليم. لذلك، لا يجدون غضاضة في الاستقواء بها واللجوء إليها صمام أمان. كما أن القيادة الإيرانية لا تعدم وسيلة في اللعب على التوازنات داخل أحزاب هذه الطائفة وقواها. ولا يضيرها في النهاية غياب أشخاص وبروز آخرين إذا ضمنت بقاء القيادة في أيدي هذه القوى... وكانت بعد انتخابات 2014، ضحت بنوري المالكي، أحد أبرز حلفائها، لمصلحة العبادي، وراعت رغبة المرجعية تحاشياً للصدام معها، مثلما راعت رغبة القوى الشيعية المناهضة لزعيم «دولة القانون».
الهدوء على جبهة البصرة قد لا يطول. فلا شيء يشي بأن السلطة قادرة على استجابة مطالب الناس بعد إهمال طويل، وفي ظل الصراع السياسي الداخلي والخارجي المحتدم، وتوزع مراكز القوى المتقاربة الحجم، والتهديدات المتبادلة بإسقاط أي حكومة لا تراعي هذا الفريق أو ذاك، لا توجد قوة راجحة الكفة تشكل مرجعية صالحة يلتف حولها المظلومون واليائسون والمهمشون الذين عبروا صراحة عن رفضهم النظام السياسي القائم منذ الغزو العراقي لبلادهم. فلا الولايات المتحدة باتت معنية بنظام ديموقراطي كما وعدت قبل عقد ونصف العقد. بل قد تكون معنية بفتح كوة في جدار العلاقة مع إيران إذا صحت تصريحات الرئيس حسن روحاني عن رغبة الرئيس دونالد ترامب في فتح حوار بين البلدين. ولا طهران معنية بترسيخ صيغة تعمم الهدوء والاستقرار والتوازن بين المكونات المختلفة مذهبياً وعرقياً وطائفياً بقدر ما هي مهتمة بتعميق حضورها في عاصمة الرشيد. ولا تبدي مرونة في التعامل مع أزماتها ومع الجيران. وآخر هذه الهجمة على روحاني وتياره في الداخل، ورفض الحوثيين حلفائها التوجه إلى محادثات دولية في جنيف قبل أيام.
الهدوء قد لا يطول. بل هناك من يحذر من صدامات وفوضى، خصوصاً أن الصراع على «الكتلة الأكبر» قد يطول. فللمرة الأولى منذ 2003، يشهد العراق هذا التجاذب الحاد بين إيران والولايات المتحدة، والتي تساهم في تعميق الانقسامات في صفوف مكوناته. فالشيعة شيع والكرد أحزاب وقوى تناهض الحزبين الكبيرين العليلين أيضاً. والسنة موزعون كتلاً وجماعات هنا وهناك يطلبون الحماية من الداخل والخارج بعدما استعصت عليهم وحدة الصف. وللمرة الأولى، يقيم أهل كردستان في محطة الانتظار. لا يريدون ترجيح كفة فريق على آخر. اكتووا بنار المالكي أيام حكومتيه، ولم تكن حالهم أفضل أيام العبادي. حتى بريت ماكغورك المبعوث الخاص للرئيس الأميركي لم يتمكن من دفعهم إلى عربة العبادي وحلفائه. ولا قاسم سليماني و «حرسه» قادرون على إقناعهم بالتحالف مجدداً مع «دولة القانون» و «كتلة الفتح»، مع أنهم قادرون على هز الاستقرار في الإقليم بتحريك قواتهم لملاحقة الحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني في كردستان العراق. الكرد ينتظرون أن يوافق أحد الطرفين على إعادة ما خسروه بعدما خسروا الرهان على استقلال كردستان بعد استفتاء العام الماضي. أضف إلى ذلك أن كتلة «سائرون» الموالية للسيد الصدر تبدل تحالفاتها بين ليلة وضحاها. وهي لا ذراع عسكرية لها لمواجهة أعوان إيران، كما أن لا رغبة لديها في مثل هذه المواجهة الميدانية. بل أكد ناطقون باسمها إثر الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن علاقات التيار الصدري بطهران «ثابتة»، على رغم توجه السيد إلى أهل الخليج خصومها اللدودين في الإقليم. كما أن هذا التيار لا نية لديه لتجديد المواجهة مع الأميركيين.
هذا الاستعصاء يعقد الخروج من المأزق السياسي والأمني. فلا حكومة موالية لإيران يمكن أن ترضي الشارع الذي قال كلمته في البصرة وغيرها في رفض نفوذ طهران والقوى المتحالفة معها. ولا حكومة موالية للولايات المتحدة يمكن أن تحكم البلاد وتديرها في ظل تهديد الفريق المناوئ لها باسقاطها في الشارع. فمن ينقذ العراق إذا ظل الصراع رهن هذا الشارع وذاك؟