السويد أيضاً أصبحت بلداً مقلقاً. «ديموقراطيّو السويد القوميّون»، المتفرّعون عن النيو - نازيّين، أحرزوا قرابة خُمس الأصوات في الانتخابات العامّة قبل يومين. في الانتخابات السابقة، كانوا أقلّ من 13 في المئة. رفاقهم وجيرانهم في «حزب الشعب الدنماركيّ» يستحوذون على ما يُقدّر بين ربع المقترعين وخُمسهم. اسكندينافيا أيضاً ليست على ما يرام.
السويد، على رغم اتّساع الفجوة الاجتماعيّة بين طبقاتها في العقدين الأخيرين، لا تزال أحسن حالاً من معظم بلدان أوروبا، بفضل الإنجازات التي قدّمها الاشتراكيّون الديموقراطيّون. متوسّط الدخل مرتفع والبطالة منخفضة، ومثلها الجريمة. مع هذا فـ «ديموقراطيّو السويد القوميّون» يحاولون أن ينسبوا إلى اللاجئين والمهاجرين كلّ ضربة كفّ تحصل. ذاك أنّ السويد استقبلت منهم النسبة الأوروبيّة الأعلى قياساً بعدد السكّان: 160 ألفاً في 2015 وفقاً للرقم الذي بات شائعاً. هذا بدل أن يكون شهادة لها بات شهادة عليها. فاللاجئون هؤلاء هم الخطر على السويد! لكنْ، إذا جاز للسويديّين أن يحتاطوا، فعليهم بجارهم الأكبر والأقوى، السيّد فلاديمير بوتين، لا بعشرات آلاف اللاجئين الضعفاء والمستضعفين.
على أنّ القلق الآتي من أقصى شمال القارّة الأوروبيّة بات يجد ما يكمّله في سائر القارّة: إيطاليا في الجنوب. النمسا في الوسط. بولندا وهنغاريا في الشرق. هذا التحالف المتين مدعوم بواشنطن ترامب وبموسكو بوتين. لكنّه مدعوم أيضاً، وأساساً، بالكوارث الإنسانيّة وأهمّها في زمننا ظاهرة اللجوء. في الأخبار التي نقرأ، يتلاحق خبران لا يحول البعد الجغرافيّ دون تلاصقهما: واحد يقول إنّ الشعبويّين يتقدّمون في أوروبا، وهم يرفعون سكاكينهم في وجوه اللاجئين، وفي وجه أوروبا نفسها، وآخر يحضّرنا لمذبحة في إدلب السوريّة، مذبحةٍ يصحبها انفجار جديد في اللجوء إلى الشمال ومنه إلى الغرب.
قلاع الديموقراطيّة الليبراليّة، في المقابل، مهدّدة كلّها بالتصدّع: أنغيلا مركل تُدفع يوميّاً إلى مواقع أضعف. إيمانويل ماكرون، بمعونة خفّته وغطرسته معاً، تتراجع قوّته في الرأي العامّ بإيقاع متسارع. في بريطانيا التي خرجت أصلاً من الاتّحاد الأوروبيّ، يتهيّأ شعبوياً اليمين واليسار، بوريس جونسون وجيريمي كوربن، للحلول محلّ تيريزا ماي التي تبدو شخصاً ضائعاً في غابة نائية.
الثورات الشعبويّة والقوميّة الكاسحة تنذر بأخطار كثيرة على شعوبها وعلى العالم. لكنّ أحد أكبر تلك الأخطار إضعاف النموذج الديموقراطيّ الليبراليّ وربّما إلغاؤه. جاذبيّة ذاك النموذج لم تعد تجذب. إلى ذلك، فالسياسيّ الذي يسيّر ذاك النموذج أضعف الثقة بالسياسة والسياسيّ. يكفي أن نستعيد شخص دونالد ترامب وأفعاله، لا سيّما بعد ما كتبه بوب وُدورد و «مقاومة» البيت الأبيض الذي تحوّل قاعة للأفلام الهزليّة أو البورنوغرافيّة.
نعم، هناك تقدّم هائل يحصل في الطبّ والعلوم. هناك حساسيّة بالغة الرهافة في المدن الكوزموبوليتيّة حيال كلّ تمييز، إثنيّاً كان أو دينيّاً أو جنسيّاً. لكنّ السياسة تتكرّس كشيء آخر تماماً، شيءٍ لا يتأثّر إلا بالهجرة واللجوء، أو لا يستعيد مكبوته اللعين إلا بذريعتهما. فالثورة، التي تطيح السياسة والسياسيّ، هي التي كبتها التنوير والتقدّم والديموقراطيّة وارتفاع الحساسيّة الإنسانيّة بما يليق بكلمة «إنسانيّ». وكم يبدو هذا الانتكاس فظيعاً فيما العالم يمضي في «ترقّب» مذبحة تحدث في إدلب، مذبحةٍ لا يملك في مواجهتها إلا سلاح الترقّب.