القاضي غزاوي: مرشح إصلاحيّ للنهوض بالإفتاء بعد إنجازه في محكمة طرابلس
مع إنقضاء الساعات الأخيرة من ولاية مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار إحتدمت الأسئلة والمواقف المضمورة حيال حلول إستحقاق إنتخاب مفتٍ خلف بعد أكثر من عشر سنوات من توليه هذا المنصب مصحوباً بكمٍ هائلٍ من الإعتراض والإنفصال عن الواقع وتحويل دار الفتوى في الفيحاء إلى منصةٍ سياسية آحادية التوجه ، بغياب أي إهتمام فعليّ بقضايا الدار وشؤون الأوقاف والعلماء.
• محنة الأوقاف والعلماء
يعلم الجميع أن الأمور في إفتاء طرابلس وأوقافها حدوداً تستدعي إختراقاً سريعاً لأزمتها المتفاقمة التي تسحق الأئمة والخطباء والمدرسين ، وتضعهم تحت وطأة ظروف حياتية قاسية ، من دون أن يظهر بصيص ضوء يؤشر إلى قرب نهاية هذه المحنة التي يمرّ بها علماؤنا.
أوقاف طرابلس ، وهي المؤسسة العريقة الرفيعة الشأن ، الممتد عمرها مئات السنين ، باتت اليوم غارقة في العجز أكثر من جمعية المقاصد وربما قبلها ، وهي تعاني جموداً إدارياً مشبوهاً ، رغم أنه يقف على رأس إدارتها رجل يشهد له الجميع ، ونحن كذلك ، بنظافة الكفّ وصدق النية والسعي للنهوض بالأوقاف ، أعني به الشيخ عبد الرزاق إسلامبولي..
لكن المشكلة تكمن في مكان آخر . فهناك من يكبل مجلس الأوقاف ومن يعرقل إدارتها ، فإذا بالجباية وكأنها غير موجودة وإذا التطوير الوقفي يختفي بعد إختفاء منحة مؤسسة الوليد بن طلال التي سبق وتم الإعلان عنها قبل سنوات ، من دون أن يعرف أحدٌ مصيرها ، وأين ذهبت أموالُها التي خـُصّصت لمكننة أوقاف طرابلس التي لا تزال في العصر اليدوي بإستثناء الصندوق فقط.
تخضع عقارات وقفية كبرى في طرابلس للإحتلال ووضع اليد ، وتخوض الأوقاف معركة بائسة لإستعادتها ، لعدم وجود قرار بمواجهة المحتلين المغتصبين لأوقاف المسلمين ، بل إن كثيراً من هذه العقارات يتآكلها الإهمال والقضم المتواصل نتيجة عدم الجدية في المتابعة القانونية.
كيف يمكن لمسلم أن يحتل وقفاً ، بل إن بعض محتلي الأوقاف باتوا اليوم "وجهاء" من الطبقة الثرية في المجتمع يستقبل كثيراً منهم المفتي والنواب.. لكنهم لم يكتفوا من إحتلالاتهم بل يسعون لترسيخها وتوسعتها..
الرؤية التطويرية للأوقاف غائبة تماماً ، وليس هناك ما يوحي بوجود رؤية أو خطة إنقاذية ، رغم وجود كل مقومات النهوض ، العقارية منها والإستراتيجية ، لكن المطلوب رفع القيود عنها والإستعانة بالقدرات التطويرية من الشباب المسلم التواق لخدمة مجتمعه ، وتحديداً في المجال الإستثماري وتقديم المشاريع الملائمة التي تحفظ للأوقاف حقوقها ، وتجعل التطوير مسلكاً في إدارتها ومرافقها ، وتؤمّن للعلماء والدعاة وكل من ترعاهم الأوقاف العيش الكريم.
العلماء اليوم يعانون الضنك وشظف العيش مع غياب أي ضماناتٍ صحية أو إجتماعية ، فهم يدخلون مجال خدمة الدين شباباً ويخرجون كهولاً ، وهم لم ينالوا حقهم في التثبيت ، بل يبقون مكلّفين وبأدنى الأجور.
يستحيي المرء أن يذكر أن الخطيب يتلقى 100 ألف ل.ل. والإمام 150 ألفاً (غير مثبت) ، والإمام المنفرد – مثبت - وتشمل مهامه (الخطابة والتدريس في المسجد والإمامة) 200 ألف ل.ل. واللافت أن عدد المثبتين كأئمة منفردين في طرابلس والشمال يعدون على عدد أصابع اليد..
تبلغ أجرة ساعة التعليم الديني 7 آلاف ليرة لبنانية وبدل النقل 30 ألف تقريباً..
يقول مشايخ في معرض تناولهم لهذه الأزمة ، أن كل المؤسسات ملزمة بتثبيت وضمان العاملين لديها بعد ثلاثة أشهر ، لكن القانون لا يسري على الأوقاف ، وأيضاً الحد الأدنى للأجور غير معمول به ، وهذا يجعل حياة هذه الشريحة من المواطنين تحت الحدّ الأدنى للمعيشة الكريمة ، مذكّرين بأن توقف منحة دولة الإمارات العربية المتحدة جعل أعداداً كبيرة من المشايخ في دائرة العوز الشديد والحاجة الماسة خاصة في المجال الصحي والشأن الإجتماعي.
• إستعادة الدور والمرجعية
أما التحدي الآخر الذي ينتظر المفتي العتيد ، فهو إستعادة الدور الريادي لدار الفتوى ومواكبة التحوّلات الإجتماعية والفكرية التي تعصف بالمجتمع المسلم ، وتقديم التصور المطلوب لتطوير الخطاب الديني وإستيعاب المشكلات الثقيلة التي يعانيها المجتمع وأخطرها الفكر المتطرف وتداعياته ، وآفة المخدرات التي تنهش المئات من شبابنا بصمتٍ وتواطؤ ، وإبتعاد جمهور واسع من المسلمين عن التفاعل الحضاري مع قضايا البيئة والسلامة العامة والإنخراط في التعليم للجميع ومكافحة التسرب المدرسي ، وغيرها من الشؤون التي تستدعي الإفتاء والإرشاد ، إسهاماً في الإستقرار الإجتماعي والوطني.
• المرشحون والتحديات
يبرز في مقاربة الترشيحات لمنصب مفتي طرابلس والشمال أسماء عدة ، منهم أعضاء في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى مثل الشيخ مظهر الحموي والشيخ وليد علوش ، والقاضي سمير كمال الدين وغيرهم ، لكن الإهتمام ينصب على شخصيتين حصلتا على إجماع بأنهما يتمتعان بمواصفات تجعل إختيارهما أقرب للواقع ، سواء من خلال العملية الإنتخابية ، أو من خلال التوافق والتزكية.
• مرشحان يجسدان الطموح
ـ الشيخ محمد إمام:
المرشح الأول ، هو الشيخ محمد إمام أمين فتوى طرابلس ، المعروف بعلمه وتواضعه وقربه من جميع أبناء مدينته ، والمتعاون مع قياداتها السياسية والداعي إلى حفظ الأمن ودعم المؤسسات الشرعية ، والمعروف أيضاً بنظافة الكف واللسان ، وهو المواكب لمؤسسة دار الفتوى منذ سنوات ، من موقعه ، مما يجعله الشخص الأقرب لتولي مسؤولية الإفتاء ، وإن كان لا يسعى إليها ، ولم يدخل في منازعات لأجلها..
لكنّ تقصّي آراء المهتمين يؤكدون على أهمية بقائه في موقع أمانة الإفتاء لأنها تعتبر صمام الأمان في دار الفتوى ، وهو أثبت أنه خير من يمكن أن يتولى هذا الموقع.
ـ القاضي عبد المنعم غزاوي
المرشح الآخر الذي يفرض نفسه في إستحقاق هو القاضي الإداري (الأول) في محكمة طرابلس الشرعية الشيخ عبد المنعم غزاوي ، الذي تمكن منذ توليه منصبه من تحقيق إنجازاتٍ قلبت أوضاع المحكمة رأساً على عقب ، وسمحت بإعطاء نموذج إيجابي متقدم للإدارة في القضاء الشرعي.
فقد إتخذ القاضي غزاوي سلسلة قرارات في الشأن المالي منعت كل أشكال الفساد والسمسرات وأوقفت إستغلال البعض لجهل المتقاضين لحقوقهم ، وأزاح بقراراتٍ أخرى بعض رؤوس الفساد المعروفة والمزمنة ، رغم إعتراض حماتها السياسيين..
ضبط القاضي غزاوي الدوام في المحكمة ، بل ذهب أبعد من الدوام ، فكان يحضر صباحاً ليغادر في بعض الأحيان بعد صلاة المغرب.. ومعه إختفت الملفات المتراكمة منذ سنوات بما يتجاوز الألف ملف ، فباتت الجلسات تـُحدّد بالأسابيع بعد أن كانت تـستغرق أشهراً ، بل وسنوات في كثير من الأحيان..
يمكن القول إن القاضي غزاوي قدّم النموذج الناصع لعمل المحاكم الشرعية ، وأخرج مؤسسة كانت تغرق في أشكالٍ كثيرة من الفوضى والتقهقر عن خدمة المسلمين ، وحوّلها إلى منصة يتطلع إليها القريب والبعيد ، في الإنجاز الإداري وحُسن المعاملة والخطاب والإستقبال والإنجاز.. ما يجعل هذا التحول رداً على مجمل مستهدفي القضاء الشرعي ، ودافعاً لإعتبار القاضي غزاوي قادراً على نقل ورشة الإصلاح والنهوض إلى دار الفتوى وأوقافها ، وعلى بثّ روح التعاون مع مختلف مكونات وشرائح المجتمع المسلم لمواجهة التحديات الداهمة ، وللمساهمة في الحياة الوطنية القائمة على الشراكة الإسلامية المسيحية.
• خيارات الإستحقاق
يحاول المفتي الشعار إحراج الرئيس سعد الحريري وتوريطه لتمديد بقائه في منصبه عاماً إضافياً ، لأنه يعتبر أن التمديد "دَيْنٌ مستحق" له بذمة الرئيس الحريري بعد إنحيازه المتطرف إلى جانبه في الإنتخابات النيابية الأخيرة.
وهنا لا بُـدّ من وضع الإشارات الآتية:
ــ أن تحويل موقع دار الفتوى إلى "مربض مدفعية سياسي" لقصف المنافسين السنة لتيار المستقبل ، وخاصة الرئيس ميقاتي ، كان سياسة خاطئة أصابت موقع الإفتاء بأضرار جسيمة وجعلته معزولاً ومقاطعاً من قبل مجمل الطيف الإسلامي في طرابلس والشمال.
ــ من الوهم الإعتقاد أن ممارسات المفتي الشعار أفادت تيار المستقبل إنتخابياً ، فهو تقوقع عن الجمهور وإعتزل النخب وتفرّغ لمصالحه المباشرة ، وبالتالي فإن الرئيس الحريري حصل على تأييدٍ شكليّ لم ينعكس إنتخابياً لأن دائرة تأثير المفتي الشعار تضاءلت لدرجة الضمور.
• التحديات وأهمية ملاقاة ميقاتي
ــ إن التحديات السياسية الراهنة التي تهدّد الوجود الإسلامي والصيغة الوطنية من خلال إستهداف صلاحيات رئاسة الوزراء ، دفعت رؤساء الحكومات السابقين ، وخاصة الرئيس نجيب ميقاتي إلى التحرّك لملاقاة الرئيس (المكلف) الحريري وإعلان طيّ صفحة الإنتخابات ومباشرة تعاونٍ غير مشروط لدعم موقف وموقع الرئيس الحريري والرئاسة الثالثة.
توجب مبادرة الرئيس ميقاتي على الرئيس الحريري ملاقاته ومراعاة وجوده في طرابلس بعد أن حقـّق نسبة التمثيل الأعلى فيها وبعد أن قال زعيم المستقبل إنه خير من يمثـّل طرابلس.. وبالتالي فإن التمديد للمفتي الشعار سيكون طعناً لموقف زعيم تيار العزم وسيعتبر ضرباً لمسيرة التقارب والتنسيق والدعم للرئيس الحريري لأن الشعار لم يترك للصلح مكاناً وحرق كلّ سفن تواصله مع ميقاتي وسواه ، ولأن التمديد سيكون رسالة إلى الجميع بأن الإنفتاح والتعاون والشراكة شعارات غير قابلة للتطبيق ، بينما التفاهم على المخرج المناسب سيعزّز وحدة الصف الإسلامي وحصانة الرئاسة الثالثة وتحديداً الرئيس الحريري.
• الإنتخاب ضرورة واجبة
في ضوء ما سردناه من مؤشرات وضرورات للمعالجة ، يصبح من الواجب الرجوع إلى أصل المسألة ، وهي مراعاة المواقيت القانونية في الإستحقاقات الخاصة بدار الفتوى.
بعبارة أوضح: الحلُّ الأمثل هو اللجوء إلى الإنتخابات لإختيار مفتٍ أصيل ، ولهذا التوجه إيجابيات كثيرة ، أهمها:
ــ أن سماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان سيخرج من الإحراج ، وسيستعيد التوازنَ لدار الفتوى في الشمال بعد ما أصابها من أضرار.
ــ إعطاء صورة ناصعة عن المؤسسة الدينية من خلال الإلتزام بالمهل الإنتخابية وتجديد الجسم القيادي فيها ، بعد سنوات طويلة من التمديد في مختلف المناطق.
مطلوب من السياسيين أن يتطلعوا إلى واقع دار الفتوى وأوقافها وبيت زكاتها ومشايخها الذين مسّتهم الضراء وبلغ الصبر عندهم منتهاه ، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً وليأخذوا قراراً رشيداً..