حادثان. الأوّل اغتيال، والثاني قضاء وقدر، يُخبران كثيراً عن اللحظة الراهنة.
فاغتيال زعيم كيان «جمهورية الدونتسك الشعبية» الانفصالي، والموالي لروسيا، في الشرق الأوكراني، ألكسندر زخارتشنكو، نهاية الشهر الماضي، ليس أبداً بالحدث المحلي الهامشي النافل. فهو يأتي في سياق «متّصل» باغتيالات سابقة لغيره من قادة الإنفصاليين، شأن الروسي ارسيني بافلوف المعروف بـ «موتورولا» قائد ميليشيا «كتيبة سبارتا»، أبرز التشكيلات القتالية التي رعاها الجانب الروسي في حرب الدونباس ضد الحكومة الأوكرانية، ومن بعده أمير الحرب الآخر ميخائيل تولستيخ المعروف باسم «غيفي»، قائد ما يعرف بـ «كتيبة الصومال».
تعكس هذه الاغتيالات إلى حد كبير مآل الوضع في الشرق الأوكراني. بالقدر نفسه الذي استطاعت فيه روسيا الإتحادية ضمّ شبه جزيرة القرم ببراعة، بعد الإطاحة في شباط 2014، بالرئيس الموالي لها في كييف فيكتور يانكوفيتش، فإنّ مجمل رعايتها للإنفصالية في حوض الدونباس الصناعي، جنوب شرق أوكرانيا، اتّصف بالكثير من الشطط. بدلاً من نفوذ روسي ممتد في المناطق الناطقة بالروسية من خاركوف حتى أوديسا من أوكرانيا، بما يشطر البلد شطرين، أو من التركيز على إعادة قلب الأمور في كييف نفسها، اعتبرت موسكو أنّ الإنقلاب الذي حصل في أوكرانيا هو نتيجة لسيطرة ميليشيات يمينية متطرّفة تُشكّل استمرارية لخط ستيبان بانديرا المتعامل (المشاكس) مع الإحتلال الألماني في سنيّ الحرب العالمية الثانية، والذي قاد أتباعه بعد ذلك حرباً شرسة ضد السلطة السوفياتية في مناطق من أوكرانيا حتى منتصف الخمسينيات، واعتبرت أنّه يلزم في مواجهة هذا الانقلاب «النازي الجديد» إعادة تفريخ تشكيلات «أنصاريّة» تابعة لها، على غرار تلك التي تشكّلت بالتنسيق مع الجيش الأحمر في أيّام الحرب ضد المانيا الهتلرية.
النتيجة كانت، حتى الآن، أقلّه، الإنكفاء عن أي تأثير في العمق الأوكراني، والإكتفاء باقتطاع قسم من حوض الدونباس، بتفريخ الجمهوريتين الانفصاليتين في الدونتسك ولوهانسك،. وبدلاً من أن تنجح هذه الحرب في إظهار وتعزيز التفسّخ في أوكرانيا، كانت مناسبة لتقوية الخبرات القتالية الأوكرانية الأطلسية المشتركة في هذا النوع من الحروب المتحركة، وبخاصة من خلال تجربة كتيبة أزوف للعمليات الخاصة، الناشئة في الأصل من تشكيلة متطوعين أوكران يمينيين متطرفين، وبرمز محوّر عن السفاستيكا النازية، قبل أن يتم دمج هذه الكتيبة بالقوات الحكومية الأوكرانية.
استعاد الجانب الأوكراني السيطرة على مدينة وميناء ومصانع ماريوبول على بحر أزوف، وبرغم كل نوبات الصعود والهبوط لإدارة دونالد ترامب مع الجانب الروسي، فإنّ أمراً واحداً بقي ثابتاً من يوم تسلّمه حتى الآن: زيادة الدعم النوعي الميداني للأوكران في حرب الدونباس. اغتيال زخارتشنكو يترجم إلى حد كبير سياق رجحان كفة اوكرانيا في هذا النزاع، في الوقت نفسه الذي يتزايد فيه الضغط، الأميركي والغربي، على روسيا، من أجل الإلتزام بالحل السياسي لهذا النزاع، على قاعدة تلغي مسبقاً أي شرعية للانفصاليين. جزء كبير من رجحان الكفة الأوكرانية في هذه الحرب، يرتبط بالفعل بالطبيعة الأيديولوجية المصممة للميليشيات اليمينية المتطرفة التابعة لكييف في هذا الحوض، والترابط بين هذه الأرضية «الحشدية» وبين الدعم الأميركي والغربي لها، في مقابل «قلّة حيوية» السياسة التطوّعية الروسية إلى جانب الانفصاليين، ما يضيء على مفارقتين أساسيتين لروسيا في ظل فلاديمير بوتين. من ناحية، هي تعوّل على المشاعر القومية والنوستالجيا الإمبراطورية، لكنها تحترز في نفس الوقت من تطوير حيوية جماهيرية روسية في هذا الإتجاه، كي لا تفلت الأمور عندها عن السيطرة.
يريد النظام البوتيني الشيء ونقيضه: الغلواء القومية والنوستالجيا الإمبراطورية، بمبايعة الناس له كنظام، لكن من دون دور حيوي للناس في «تجسيد» هذه الغلواء أو دفعها إلى الأمام. وبالتوازي، يدعم الأنشطة الانفصالية في جمهوريات سوفياتية سابقة، إنّما يحترز أيضاً من هذا الإتجاه، ويحاول ضبطه، كي لا تثير الإنفصالية شهية النزعات الإقليمية الإنطوائية والانفصالية في الداخل الروسي الفسيفسائي والمترامي.
هذا عن الإغتيال، الذي تتهم به موسكو كييف، وترد كييف التهمة عن نفسها بالإشارة إما إلى تدبير من موسكو، وإما إلى نزاع داخلي بين الانفصاليين.
أما الحادثة الثانية، أول من أمس، فهي حادث السير الذي أودى بحياة غينادي غاغوليا رئيس وزراء كيان إنفصالي آخر ترعاه روسيا، أبخازيا، بعد أن كان إلى جانب رئيسه راول خاجيمبا، «يتونّسان» بـ «شرعية» بشّار الأسد، وقد سبقهم إلى دمشق رئيس كيان انفصالي آخر عن جيورجيا، يتبع لموسكو، اناطولي بيبيلوف رئيس أوسيتيا الجنوبية، أواخر تموز الماضي.
تظهر هذه الزيارات إلى حد كبير، مفارقات العمل الروسي على «إعادة تطبيع» صورة نظام آل الأسد. فموسكو حين تبحث له عن أصدقاء يتكامل معهم، تجد هؤلاء في جمهوريات غير معترف بها كمثل اوسيتيا الجنوبية وابخازيا، أو لعلّ الدائرة تتوسع مستقبلاً إلى ترانسدنيستريا مثلاً، ناهيك عن جمهوريتي دونتسك ولوهانسك في الشرق الأوكراني. هذا مع العلم أن روسيا نفسها التي رعت الإنفصالية الأبخازية، لم تعترف باستقلال الأخيرة إلا بعد عقدين على اعلانه، مثلما لم تعترف الحكومة السورية بأبخازيا الا في 29 من ايار المنصرم. في المقابل، حافظت ايران على موقف متوازن حيال الأوضاع في جيورجيا، وهي لا تعترف بانفصال أبخازيا، وتصنف من أهم الشركاء الاقتصاديين والتجاريين مع جيورجيا التي كانت جزءاً من امبراطوريتها القاجارية، قبل سيطرة الروس عليها مطلع القرن التاسع عشر.
اعتراف النظام السوري بأبخازيا، الناشىء في الأساس عن طلب من صديق (روسيا) وعن حاجة لأصدقاء (أبخازيا، أوسيتيا الجنوبية، ومن هذا القبيل)، يأتي في سياق مناقض كلياً للأيديولوجية البعثية التي لا يمكنها أن تتقبّل أي صيغة إقليمية حتى الآن بالنسبة إلى المنطقة الكردية، لكنه يظهر في الوقت نفسه طبيعة النظام الأسدي الذي يروى لنا أنه «عائد أو عاد كما كان»، فهو حتى من جانب راعيه الروسي، عائد على نسق أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وترانسدنيستريا ودونتسك ولوهانسك، التي تشكّل رابطة الدول غير المعترف بها دولياً، بل التي بالكاد تعترف روسيا رسمياً ببعضها، وبشكل هش وعرضة للتبدّل والبيع والشراء في أي لحظة. في «تطبيعه» ضمن لائحة من الكيانات الإنفصالية، تبرز طبيعة النظام الأسدي «العائد»، كطبيعة إنفصالية حتى وهو يعود ويتمدّد في الجغرافيا السورية.