يشكّل الوزير والنائب جبران باسيل علامةً فارقة في الحياة السياسية انطلاقاً من موقعه السياسي الحزبي والوزاري والنيابي الذي آل إليه بقرار من العماد الرئيس ميشال عون، وقد نجح في أدائه وتحديداً في الآونة الأخيرة في تحقيق معجزات عدة لا بد من التوقف عندها وتسليط الضوء عليها.
 

الصورة التي يحب الوزير باسيل إعطاءها عن نفسه أنه الرجل الذي لا ينام والقادر على حمل «بطيخات» عدة من رئاسة «التيار الوطني الحر» إلى شؤون رئاسة الجمهورية ووزارتي الخارجية والطاقة وصولاً إلى النيابة ومتابعة شؤون منطقته، وربما ملفات أخرى.


وإذا كانت هذه الصورة إيجابية شكلاً لجهة أنه رجل كل الملفات والمهمات والقادر على متابعة ومواكبة أكثر من ملف وعنوان، إلّا أنه في الجوهر والمضمون لا يمكن لأيِّ شخص مهما علا شأنه وتمتع بقدرات عالية واستثنائية أن ينجح في كل الملفات التي يتولّاها، لأنّ كل ملف يحتاج بحدّ ذاته إلى متابعة دقيقة ولصيقة يستحيل أن يفيه حقه كما يجب ويفترض.


فرئاسة التيار تستدعي لوحدها مواكبة لأكثر من 18 ساعة في الْيَوْمَ، من متابعة أعمال الوزراء والنواب إلى السهر على الحركة الحزبية على كل مستوياتها وتشعباتها وتفاصيلها، والشأن النيابي لا يقلّ أهمية بين ملاحقة شؤون الناس وبين الدور التشريعي، وناهيك عن الدور الوزاري الذي يتطلب تفرّغاً كاملاً ليتمكن من إعطاء الحقيبة التي يتولّاها الوقت والجهد والتركيز الذي تتطلّبه.


فالصورة التي يجهد الوزير باسيل ليضفيها على شخصه مفيدة شكلاً، ولكنّ مفعولها لن يكون على قدر هذه الصورة، والوقت سيكون كفيلاً بإظهار حجم التقصير في كل الملفات التي يتولّاها، لأنه يستحيل على شخص واحد أن يتمكن من إدارة شؤون الرئاسة والتيار والنيابة والوزارة...


وفِي مطلق الأحوال هذا شأنه وشأن تياره وسيتحمّل أمامه مسؤولية التقصير، وقد يكون التخبّط في سلوكه سببه هذا الحمل الذي يفوق قدراته، علماً أنّ أحداً لا يطلب منه أن يحمل أكثر من «بطيخة» في يد واحدة، وهذا ما يفسّر، ربما، المعجزات التي نجح بتحقيقها وتكمن في الآتي:

المعجزة الأولى توحيد كل الطائفة الدرزية خلف النائب وليد جنبلاط الذي استعاد وضعيّته التي انتزعها في الحرب وكانت تراجعت نسبياً، وهذا أمر طبيعي، خصوصاً أنه من المتعارف عليه أنّ الموحّدين يتوحدون خلف الزعامة الجنبلاطية في الحرب ويستعيدون انقسامهم التقليدي في السلم، فإذا بالخطاب الباسيلي والدخول إلى البيت الدرزي من خلال الإصرار على توزير النائب طلال ارسلان يؤدّي إلى نتائج عكسية، ليس بسبب قلة مشروعية ارسلان الذي يحظى بمشروعية تاريخية، بل بفعل شعور الدروز أنّ هدف باسيل ليس دعمهم وتعزيز وضعهم من باب خلدة، إنما الانتقام منهم وضرب زعامتهم الأخرى الجنبلاطية، لا سيما أنّ سعيه الأخير ليس استثناءً ولا يمكن فصلُه عن موقفه وموقف تياره العدائي للحالة الجنبلاطية منذ العام ٢٠٠٥ أقله، ولا حاجة للتذكير بأدبياته في كل محطات الصدام مع هذا الطرف.

المعجزة الثانية توحيد كل الطائفة السنّية خلف الرئيس سعد الحريري الذي أدّت جملة تطورات إلى تراجع شعبيته مع محافظته على الصدارة داخل بيئته، وعلى رغم إدراكه حتمية التعاون معه لأن لا بديل عنه على هذا المستوى لاعتبارات سنّية ووطنية وعربية ودولية، إلّا أنه يفضِّل أن يكون هذا التعاون من موقع المتراجع شعبياً ليتمكّن من ربط استمراريته في موقعه كرئيس للحكومة عن طريق التحالف معه، فلا تكون قوته مستمدة من حيثيته، بل من هذا التحالف.

وفِي وقت كانت الخشية طيلة الحكومة الأولى وفِي الانتخابات من ثنائية التيارَين الأزرق والأورانج ودورها على المستوى الوطني، أطاح باسيل بكل ما راكمه على هذا المستوى بسبب رفض الحريري تغطية أهدافه في تحجيم «القوات اللبنانية» و»الإشتراكي»، معيداً العلاقة إلى القعر الذي كانت عليه بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠١٥، فيما كان باستطاعته أن يحيِّد الحريري ويتجنّب فتح باب الصلاحيات الذي أدّى إلى توحيد كل السنّة خلفه وتعطيل دور سنّة المعارضة، خصوصاً أنّ تموضعه الأخير ينسجم مع تاريخه الصدامي مع هذه البيئة.

وإذا كانت التسوية الرئاسية نجحت في ترميم العلاقة بين الجانبين بعد صراع كبير وتباعد أكبر، فإنّ الأزمة الأخيرة التي اندلعت مع الصلاحيات نسفت كل مناخات الثقة التي أعيد ترميمها.

المعجزة الثالثة تتمثل في اصطدام باسيل مع الرئيس نبيه بري وتحويل البيئة الشيعة من داعمة لمواقفه وسياساته إلى معترضة على دوره بالحدّ الأقصى، ومنكفئة عن دعمه بالحدّ الأدنى، الأمر الذي ينطبق على «حزب الله». ومن الواضح انّ الحماسة الشيعية حيال باسيل وتياره لم تعد موجودة، والتحفّظ لا يقتصر على الصدام مع بري بل يتعدّاه إلى التحالف مع الحريري الذي توثّق بشكل مقلق بالنسبة إلى «حزب الله»، وإلى تساؤلاته عن بعض مواقف باسيل وممارساته.

المعجزة الرابعة تتمثل في جعل «القوات» مقبولة شيعياً بعدما كانت النظرة إليها عدائية، حيث إنّ سلوكه سمح في إجراء مقارنة بين الطرفين، أي بين طرف على استعداد للقيام بأيّ شيء خدمة لأهدافه وفِي خطوات غير متوقعة تسيء إلى التحالف بينهما، وطرف آخر على رغم الخلاف السياسي معه يمكن التقاطع معه بحدود ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا.

وأعاد سلوك باسيل توثيق العلاقة بين «القوات» والرئيس الحريري التي استعادت عصرَها الذهبي، فيما تثبّت الحريري أنّ حليفه المسيحي الاستراتيجي هو «القوات اللبنانية»، كما أنّ الالتفاف الشعبي حول «القوات» في الانتخابات سببه في جزء منه النقزة من ممارسة باسيل وتقلباته وشعوره أنّ ضمانته تكمن في «القوات»، فضلاً عن أنّ الناس سئمت من الخلافات والانقسامات والتوترات وتريد العيش بسلام واستقرار ولو لفترة محدّدة تكون الأولوية فيها لهمومها الحياتية والمعيشية، فتفاجأت أنّ النهج نفسه ما زال مستمراً قبل الرئاسة وإبانها.

المعجزة الخامسة تكمن في معاداته «القوات» و«أمل» و«الإشتراكي» و«المستقبل» و«المردة» وغيرها من القوى السياسية إلى درجة انه اصبح وحيداً، فيما أيّ فريق سياسي يحاول من ضمن ثوابته الشبك مع القوى التي بإمكانه التعاون معها، خصوصاً انّ القوى المشار إليها شكّلت الركائز الأساسية للعهد وهي قوى وازنة وتمثيلية والمصلحة في التعاون معها لا معاداتها، كما أنّ مواجهته لكل هذه القوى مجتمعة أدّى إلى مزيد من توثيق التقاطع فيما بينها كردّ فعل طبيعي على استهدافها من الطرف نفسه.

وقد تكون هناك معجزات أخرى أيضاً تمّ تحقيقها وجرى إغفالها، إلّا أنّ المعجزات التي حققها الوزير باسيل ليست تفصيلية على الإطلاق ويستحق كل تنويه عليها وتشجيع على مزيد من الشيء نفسه، أي على المزيد من الإنجازات في الاتجاه ذاته.