يدرك الجميع أنّ الحكومة العتيدة التي يعمل الرئيس المكلف سعد الحريري على تأليفها ستعيش على الأرجح حتى نهاية ولاية مجلس النواب الحالي وانتخاب مجلس جديد في ايار 2022، وإن كان البعض يؤكد انه لا يمكن الجزم بهذا الامر، اذ قد تطرأ تطورات سياسية داخلية، وربما خارجية ايضاً، تفرض تغييراً حكومياً قبل سنة 2022، خصوصاً انّ المنطقة التي تشهد حروباً وأزمات متعددة ومتغيرات متلاحقة تؤثر في الوضع اللبناني ويتأثر بها.
لكنّ قراءة مختلف القوى السياسية اللبنانية، وخصوصاً التي ستشارك في الحكومة العتيدة، لمستقبل لبنان والمنطقة تأخذاً طابعاً استراتيجياً، بمعنى انّ كل فريق من الافرقاء يسعى من الآن بوسائل شتى الى تعزيز موقعه في الحياة السياسية، بل في السلطة، ليضمن بقاءه فيها مهما كانت المتغيرات والتطورات التي تشهدها المنطقة، ومهما كان المشهد الذي سترسو عليه مستقبلاً.
ولذلك، فإنّ المفضّل لدى هذا الفريق أو ذاك هو ان ينال حصة ترضيه من المقاعد الوزارية توازي حجمه التمثيلي النيابي حداً أقصى، وان تسند إليه حقائب وزارية دسمة، واذا تعذّر ذلك لا ضير عنده بحقائب عادية وان كان بينها «وزارات دولة»، لأنّ الاساسي بالنسبة اليه هو ان يكون مشاركاً في السلطة التنفيذية وتالياً في القرارات التي تتخذها، وان كانت الحقائب الوزارية الخدماتية تغريه في انها تمكنه من أسباب تعزيز رصيده الشعبي الذي في إمكانه تسييله بأصوات تؤيده في الاستحقاقات المقبلة.
والواقع انه بعد انجاز الاستحقاق النيابي في ايار الماضي بانتخاب مجلس النواب الجديد ومن ثم انتخاب الرئيس نبيه بري رئيساً له للمرة السادسة على التوالي، برز مع الاستحقاق الحكومي الحالي الذي لم ينجز كلياً بعد، انّ النزاع في مرحلة ما بعد تأليف الحكومة العتيدة، سيكون محوره الاستحقاق الحكومي في ربيع وصيف 2022 الذي سيلي الاستحقاق النيابي، وبعده، بل وربما قبله ايضاً، الاستحقاق الرئاسي.
ومن هنا يمكن فهم جانب أساسي من الحقيقة الكامنة خلف تأخّر ولادة الحكومة، اذ تعكس في مطاويها حرباً، بل «حروب إلغاء»، كانت قد بدأت في الانتخابات النيابية الاخيرة وهي تنسحب الآن على الاستحقاق الحكومي حيث يعمل البعض على إلغاء من لم يتمكن من إلغائهم في الانتخابات، وذلك عبر منع تمثيلهم في الحكومة او تقليص حصصهم ليكون هو الاقوى بين مجموعة ضعفاء لا حيلة لهم الّا التسليم لمشيئته وللأقدار السياسية التي يرسمها لهم، وتالياً القبول بالحصص التي «يمنّ» عليهم بها.
والواضح لدى جميع الافرقاء السياسيين، وكذلك لدى كل الدول والعواصم المهتمة بالشأن اللبناني، انّ «التيار الوطني الحر» برئاسة الوزير جبران باسيل يدعمه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، يحبّذ ان تؤول رئاسة الجمهورية إليه مجدداً في الاستحقاق الرئاسي المقبل سواء جرى في موعده او في حال التبكير في إنجازه قبل ذلك الموعد، إذ انّ هناك من بدأ يهمس بهذا التبكير منطلقاً من أسباب وخلفيات عدة، بعضها «ما أُنزل به من سلطان؟!»...
ولذلك، فإنّ «التيار الوطني الحر» يتعاطى مع الاستحقاق الحكومي على انه سيكون الممهد لاستحقاقين لاحقين رئاسي وحكومي وبينهما الاستحقاق النيابي سنة 2022، كما انّ حزب «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» يتعاطيان مع هذا الاستحقاق الحكومي على الاساس نفسه أيضاً، حيث انّ لكل منهما مرشحاً جدياً لرئاسة الجمهورية، وهنا يكمن السبب الرئيسي الداخلي الذي يؤخر الولادة الحكومية حتى الآن. فـ»التيار الحر» يسعى للاستحواز على حصة كبرى في الحكومة وزراء وحقائب، ويتمسّك بمطلبه ان تكون حصته 11 وزيراً من 30، أي «الثلث المعطّل» وذلك على أساس انه يعتبر نفسه الاكثر تمثيلاً مسيحياً، تماماً كما كان الرئيس ميشال عون يعتبر نفسه حتى تمكّن من الوصول الى رئاسة الجمهورية.
لكنّ خصوم «التيار الحر»، حتى بعض حلفائه، لا يستسيغون ما يطلبه، ويرون انّ الثلث او «الأثلاث المعطلة» اذا كان لا بد من وجودها في الحكومة العتيدة، فلتكن مكوّنة من ائتلافات بين مجموعة أفرقاء، من «التيار الوطني الحر» وحلفائه ومن تيار «المستقبل» وحلفائه وهلمّ جرّا.. وذلك حتى لا يكون مصير الحكومة والبلد واسحقاقاته مرهونة بمشيئة فريق بعينه.
على أنه في مقابل تمسك «التيار الحر» بحصة من 11 وزيراً، فإنّ «القوات اللبنانية» تصرّ على ان تكون حصتها 5 وزراء، او أقله 4 وزراء بحقائب. ويقال انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون سأل الحريري عندما قدّم له خلال لقائهما الاخير التشكيلة الوزارية متضمنة 4 وزراء بحقائب لـ»القوات»: «ألا تريد تمثيل تيار «المردة» بوزير وحقيبة؟». فأدرك الحريري على الفور انّ رئيس الجمهورية حدّد حصته و»التيار الوطني الحر» بـ11 وزيراً، على ان يكون لـ«المردة» وزير واحد ولـ«لقوات» 3 وزراء في الحكومة المقرر ان تكون ثلاثينية ومناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
والمرجّح أنّ سؤال عون هذا للحريري، هو الذي يكشف سبب عدم الاتفاق على التشكيلة الحريرية الاخيرة.ولذلك، يقول متابعون للتأليف انّ الاستحقاق الحكومي دخل مجدداً في نفق طويل، الى حد انه لم يعد في الأفق راهناً ايّ بصيص أمل بولادة حكومية قريبة، فالنزاع المبكر على الاستحقاقات الدستورية المقبلة، وهو نزاع في غير أوانه ويؤخّر تأليف الحكومة، يكاد يطغى على كل ما يُحكى من أسباب ومعوقات أو «كلمة سر» خارجية يقول كثيرون إنها لم تأتِ بعد، وهي تتحكّم بمصير الحكومة العتيدة.