لا يعرف المواطن اللبناني من أين تُخلق الأزمات وكيف تتطوّر وكيف تنتهي في «ليلة لا ضوءَ قمرٍ فيها»، وكأنه مكتوبٌ على اللبناني أن يعيش رهينة الصراعات السياسية المتتالية.
 

عندما يقود القادة الكبار الشعبَ الى الحروب والنزاعات لا يسألونه عن رأيه، وماذا يريد، وعندما يُبرم المتقاتلون اتفاقاتِ السلام لإنهاء الحروب التي اخترعوها بأيديهم خدمةً لمصالح أجنبية في غالب الأحيان لا يأخذون في الاعتبار الشعبَ الذي هُجّر وقُتل وشُرِّد وأصيب بأذى، جسدياً أكان أم نفسيّاً.


في لبنان، وفي صيف 2018، أي بعد 18 عاماً على بزوغ فجرالألفية الثانية، تعود حربُ الصلاحيات بين الرئاستين الأولى والثالثة لتنفجرَ وتُدخل البلادَ كما يبدو في فراغٍ حكوميٍّ طويل الأمد.


ويعود اللبنانيُّ بالذاكرة الى بداية سنوات حرب السنتين 1975-1976 وما سبقها من صراعٍ مُبطّن على الصلاحيات بين رئيس جمهورية يشرب من نبع قوة «المارونية السياسية» ورئيس حكومة سنّي يطالب بإنصافه ويستمدّ قوّته من البحر العربي الهائج والموالي تارةً للرئيس المصري جمال عبد الناصر والمتعاطف طوراً مع الفدائيّ الفلسطينيّ وكوفيّة أبو عمار.


يؤكّد المراقبون أنه كانت تنقص البارودة الفلسطينية والعوامل الخارجية لأخذ النزاع السياسي الى أماكن أخرى حالياً، لكنّ القرار الإقليمي والدولي الصارم بحماية استقرار لبنان وأمنه يمنع القوى المتقاتلة من جرّ البلاد الى الويلات.


لا شك أنّ كل القوى السنّية سواءٌ كانت مواليةً للرئيس سعد الحريري أو ضده، مع المحور الإيراني- السوري أو السعودي- الخليجي، ساندت الحريري في معركة صلاحيات رئيس الحكومة المكلّف، مع العلم أنه عندما أُبرمت التسوية بين تيار «المستقبل» و»التيار الوطني الحر» وانتُخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وعاد الحريري الى السراي الكبير، حُكمت البلد بمعادلة نادر وجبران، ولم تكن هناك معركةُ صلاحيات، كما أنّ حقوق الموارنة والسنّة بالنسبة للمتقاتلين حالياً كانت مؤمَّنةً ومُصانةً، وعندما اختلفوا حلّ الويل والثغور وعظائم الأمور على الطائفتين، واخترعوا معركة الصلاحيات.


وأمام هذه الموجة المذهبية غير المبرَّرة، تبقى بكركي حذِرة، إذ تنظر الى الصورة الأكبر وهي أنّ «القسطنطينية تنهار وزعماؤها يتجادلون حول جنس الملائكة».


ولا تحبّذ الكنيسةُ المارونية الدخولَ في جدلٍ مذهبيّ حول صلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية لأنّ الدستورَ هو الحَكم في هذه القضايا، ولا يحب أن يكون هناك نقاشٌ في أمور مبتوت بها سابقاً وكلّفت اللبنانيين آلافَ القتلى والدمار والخراب.


وتؤكّد مصادر كنَسيّة لـ»الجمهورية» أنّ هذا الجدال هو مفتعل وليس صراعاً سنّياً- مارونياً، لأنّ السنّة والموارنة وكل أطياف المجتمع اللبناني يعانون من أزمة معيشية ضاغطة ومن أعباءٍ إقتصادية، والبلد مهدَّد بوقف المساعدات الدولية والانهيار، فيما الزعماءُ يفتحون ملفّات خلافية.


وتشدّد المصادر على أنّ «الهمَّ الأول هو تأليف حكومة إنقاذية، ومَن يؤلّفها لا يهم، وعندما تصحّ الأمور وتخرج البلادُ من غرفة العناية الفائقة عندها لكلّ حادث حديث ولتُفتح معركة الصلاحيات على مصراعيها وليصحَّح الخلل السابق، فإذا انهار هيكلُ الدولة عندها لا يبقى لا جمهورية ولا رؤساء ولا مناصب ولا صلاحيات».


لا تريد الكنيسة المارونية تركَ الوضع على ما هو عليه، فهي تعمل على خطين: الخطّ الأول محاولة لمّ شمل البيت المسيحي وعدم الذهاب نحو حرب إلغاء جديدة بين «القوات اللبنانية و»التيار الوطني الحر» أو بين بقية القوى، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقّه. والخطّ الثاني هو وطني، أي المساعدة في تأليف الحكومة عبر حديث البطريرك مع جميع القوى السياسية وعلى رأسهم عون لتسهيل التأليف وعدم خلق أزمة فراغ حكومي يؤدّي بالبلاد الى كارثة كبرى تضعها تحت الوصاية الدوليّة، خصوصاً أنّ التحذيرات الغربية والعربية كثيرة في هذا الخصوص.


وعلى رغم الاتّصالات التي تجريها البطريركية على أكثر من صعيد، إلاّ أنّ الأمور ما تزال عند حالها، مع تأكيدها على دعم رئيسَي الجمهورية والحكومة من منطلق وطني وليس طائفي، وثقتها بهما، لأنهما يملكان مفتاحَ الخلاص، فيما تؤكّد البطريركية أنّ الوقت الحالي ليس لإثارةِ ملفّاتٍ خلافيّة تعطّل التأليف وعجلة المؤسسات الدستوريّة.