أن يتحدّى الإنسان الصعاب بشعابها الملتوية وطرقها المقفرة، ويردم الأسوار القاهرة في طريقه أمر، وأن يجابه إعاقة مزمنة طرأت في حياته وحرمته حاسة من حواسه أو أكثر وهو أمرٌ لا حيلة له به أمرٌ آخر.
 

في سيرةٍ ذاتية لمسيرة حياتها، تتوغّل الكاتبة هيلين كيلر في كتابها: «قصة حياتي العجيبة» في رحلة طويلة، لدربٍ طويل دامس، تقلّبت على موقد جمره ومعاناته حتى كادت تلفظ أنفاسها، ولكنها لم تعبر مرور الكرام، فقد أثبتت بأنّ الأيام تجربة والإعاقة محرّك أساسي ليطوف الإنسان بمخيلته ويحلّق في أحلامٍ مزركشة لعالمٍ أفضل، كي يبرهن لزمنه بأنّه الأقوى وليس الأضعف كما يُشاع عن العليل عادة.

أوجهُ الشبه

هناك الكثير من أوجه الشبه بين كيلر وطه حسين، وهي تُعتبر النموذج الغربي منه، بفارق إبداعي، وهو أنّ طه حسين هو عميد الأدب العربي بلا منازع، وأنّه توّج تجاربه المنصرمة بعهود قادمة ليثبت دعائم المقولة الشهيرة بأنّ الإنسان بإرادته يقهر المعجزات ويحيلها إلى وقائع لا جدل فيها. وقد ولد مبصراّ ولكنّ العمى أصاب عينيه وهو طفلٌ صغير بسبب خطأ طبيب شعبي جاهل لا أكثر وساعده إصغاؤه الدائم لكلّ شاردة وواردة من حوله بأن يحرّك مخيلته ويتلقّف كلّ ما يخفى عنه بعين المبصر.


في المقابل، رغم ثباتها وصمودها المعنوي، لم تستطع كيلر بموهبتها أن تزعزع شقّ المعاناة الأدبية. فقد وُلدت طفلة طبيعية وبسبب الحمى القرموزية فقدت حاستي البصر والسمع في آنٍ معاً، ما استدعى جهداً حثيثاً من مدرّستها ساليفان التي واكبتها عمرها بأكمله، أن ترصد تحرّكاتها وتوجّه إبداعها وموهبتها للطريق الصحيح.

عملية بالغة الصعوبة

بدأت مدرّستها رحلة تعليمها من خلال ما يُسمى «بالحركة الإحتكاكية»، لتفهمها مثلاً الفرق بين كلمة «يشرب» وكلمة «الكوب»، ثم جعلتها تفرّق بين الأسماء والأفعال، حتى تتلمّس الخطوط الأساسية للفعل أو الإسم أو الحركة. كانت عملية بالغة الصعوبة وتحتاج تدريباً كثيفاّ وصبراً طويلاً، وقد برعت المعلمة في توجيه الطفلة وإضفاء النور على مخيّلتها التي حرمت من نعمة البصر، ودعمها بروح التبصّر التي جعلتها فيما بعد كاتبة مهمّة ونموذجاً للفتاة الذكية المستنيرة. وعنها تقول كيلر تحية شكر: «ذات يوم كنت أعرف فقط الظلام والسكون. حياتي كانت من دون ماضٍ أو مستقبل. ولكنّ طرقاتٍ من أصابع شخص آخر على يدي فتحت قلبي فجأة على عجائب الحياة».

هزّات معنوية

تدرّجت كيلر في علومها ونضجها ووعيها الثقافي، وتعرّضت لهزّات معنوية في أحيانٍ كثيرة، مثل اتّهامها بالسرقة الكتابية واقتباس أعمال الغير في مدرستها، ولكنها تشبّثت بالأمل ونهضت بالتأمّل والفكر. وفي هذا تقول : «ليس صحيحاً أنّ حياتى على رغم ما فيها كانت تعيسة، إنّ لكل شيء جماله حتى الظلام والصمت». لقد وجدت السكينة في طيّات الظلام، والطمأنينة في حنايا الليل، وأحالت سوادَ الحزن إلى ندفٍ بيضاء من الغيم العابر، الذي يحوم فوق جامات المدى ثمّ يندثر ليُفسح للشمس طريقاً للعبور.


وكما تصدّى طه حسين لنوائب الدهر ودوّن في كتابه «الأيام» جنون الخريف وجبروت الشتاء، واستفحال الرياح في حياته، وكيف أودع في دنّ الحلم نبيذ أحلامه، وتربّع ملكاً للأدب في عزّ شبابه، ونهل من المعرفة حتى الثمالة فلم يستدعِ الشفقة لفقدانه البصر، بل استولى على الدهشة والإطراء والإعجاب من كلّ المثقفين والمفكرين والأدباء وحتى عامة الشعب، وجذَب أنظار الغرب بأعماله الخالدة، كذلك فعلت هيلين كيلر التي شاركت في السياسة أيضاً فلم يقتصر دورُها على الكتابة والتأليف، وبذلك تعتبر من رائدات الحركة النسائية في العالم الغربي، وواعزاً للكثيرات بتغيير حياتهن وتكثيف جهودهن في الترويج للأمل وبثّ شعاع الحلم من أرواحهن لأرواح المتسضعفين في الأرض.