مرّة أخرى، تواجه روسيا نتائج خياراتها وأخطائها في إدارة الأزمة السورية، من تمسّكها المطلق ببشار الأسد ونظامه، إلى تغليبها الحل العسكري من دون أي تقدّم نحو الحل السياسي، إلى ضغوطها الدؤوب لتفكيك المعارضة بعسكرييها وسياسييها، إلى تلاعبها بين إيران وإسرائيل وتركيا فيما كان هدفها الدائم ولا يزال استدراج الولايات المتحدة والدول الغربية إلى تسويات لملفات خارج سورية... وعلى قاعدة هذه التخبّطات، تطرح روسيا سيطرتها العسكرية (مع إيران)، تحت غطاء النظام، بمثابة إنهاءٍ للأزمة. وعلى أساسها أيضاً، حاولت تسويق خططها لعودة اللاجئين وإعادة الإعمار. لكنها أحجمت في كل المراحل عن تقديم رؤية متكاملة، مفضّلةً الدخول في «بازارات» ثنائية، مع أميركا تارةً ومع فرنسا وألمانيا طوراً، ومع تركيا دائماً، وقد نجحت في الحصول على تنازلات، سواء بقبول أو السكوت عن بقاء الأسد في السلطة أو بتمرير تفسيرها للقرارات الدولية ومناوراتها في آستانة وسوتشي وعبثها بمقوّمات الحلّ السياسي، إلا أنها لم تكتفِ بهذه التنازلات بل تطالب بـ «ثَمَن الحلّ»، على رغم علمها منذ بداية تدخّلها بأن «ثَمَن سورية» ليس في سورية.
لم تنجح المناورة الأخيرة لفلاديمير بوتين، ولعله فوجئ بأن النتائج الفعلية لمعظم توافقاته مع دونالد ترامب في هلسنكي تبدّدت كلّياً. صحيح أن التفويض الأميركي لا يزال قائماً، لكن بشرط أن يتخذ الخيارات المناسبة. ربما يحظى بتأييد ترامب، غير المهتمّ أساساً بمآلات الأزمة السورية، أما تأييد الإدارة الأميركية فمسألة أخرى، نظراً إلى التشعّبات الإقليمية للأزمة. وقد اتّضح أخيراً أن التفويض الأميركي ليس مجّانياً بل مقابل إخراج الإيرانيين وأتباعهم من سورية أولاً، والتفاهم على حدود الدور التركي ثانياً، والبدء جدّياً بتفعيل الحل السياسي عبر «مسار جنيف» ثالثاً. ومع أن الأوروبيين لا يشاركون الولايات المتحدة كل توجّهاتها ولا يتبنّونها علناً ورسمياً، إلا أنهم يلتقون معها ضمنياً في ما يتعلّق بإيران وتركيا، ويبدون أكثر تشدّداً بالنسبة إلى الحل السياسي. وعلى ذلك فشلت الرزمة الروسية (عودة اللاجئين + إعادة الإعمار) لأسباب كثيرة لا تجهلها موسكو، لكنها ارتأت معالجة الفشل بأخطاء جديدة، بينها خطأ إدلب.
من تلك الأسباب، أن واشنطن لمست تلكؤ موسكو بل عدم رغبتها أو حتى عجزها عن إخراج الإيرانيين وأتباعهم من سورية. التلكؤ وعدم الرغبة مردّهما إلى أن الأميركيين لم يعرضوا على الروس الثمن المناسب، فـ «التفويض» ليس كافياً ولا تعتبر موسكو أنها في حاجة إليه مقدار حاجتها ولو الموقتة إلى المساهمة الإيرانية الميدانية. أما العجز فيُعزى إلى أن الروس لم يضعوا أيديهم بعد على كامل البنية العسكرية - الأمنية للنظام، ولم يقلّصوا الاختراقات الإيرانية فيها ولا نفوذ لهم على الميليشيات، كما أنهم لم يعملوا على تقنين التحالف الأسدي - الإيراني بل أبقوه ورقة للمساومة مع الأميركيين. لذلك، لم تعلّق موسكو على «الاتفاق الدفاعي» الأخير بين النظام وطهران، وإن كانت تعتبره حبراً على ورق، بل استخدمته كرسالة للردّ على شروط أميركا والدول الأخرى. لكن المزيد من تعزيز النفوذ الإيراني، أو مجرد التظاهر به، بات يناقض المصلحة الروسية ذاتها مع افتراض أن موسكو تعمل فعلاً على «إنهاء الأزمة»، فلا أحد مثل الروس يعلم أن النظام وإيران هما الطرفان اللذان لا مصلحة لهما في إنهائها ما لم تتأمّن مصالحهما كاملةً.
كان إلغاء القمة الرباعية (روسيا وفرنسا وألمانيا وتركيا) في أنقرة قراراً بوتينياً وشكّل مؤشراً إلى فشل الرزمة الروسية، مثلما أن الاستعاضة عنها في موعدها بقمة لـ «ثلاثي آستانة» في طهران شكّلت مؤشّراً إلى تغيير انفعالي في توجّهات موسكو ومجمل إدارتها للأزمة. هذه المرّة، يعتبر بوتين أن الخلافات مع واشنطن أكثر عمقاً من تقديراته ورهاناته السابقة، ولأن الدول الثلاث تتعرّض لعقوبات أميركية فإن الأحرى بها أن تطوّر شراكتها في «مسار آستانة» لتبلور محوراً استراتيجياً لمواجهة أميركا عبر الساحة السورية. ومع وجود شكوك كثيرة في فاعلية هذا المحور فإن الإحياء المباغت لـ «التحالف الرباعي لمحاربة الإرهاب» (روسيا وإيران والعراق والنظام السوري) يبدو في هذا السياق. لكن، قبل ذلك، لم تشأ موسكو الاعتراف بأن ثمة أسساً صلبة للمآخذ الأوروبية على رزمتها، فمن جهة لا يؤمّن ضمانها مع «ضمان النظام» عودة طوعية للاجئين بالنظر إلى ممارسات النظام في مناطق «المصالحات»، ومن الجهة الأخرى، تتطلّب إعادة الإعمار رفع العقوبات عن سورية ولا يمكن رفعها من دون الشروع في حلٍّ يتضمّن انتقالاً سياسياً، حتى بوجود الأسد.
كلما شعرت روسيا باقتراب الاستحقاقات المطلوبة لحلٍّ دائم ووجوب تحديد آليات للتعامل معها، لجأت إلى فتح بازارات مساومة مع الدول المعنية أو أخذت بالنهج الأسدي - الإيراني الذي يرجّح التصعيد العسكري. هذا ما تميل إليه موسكو بالنسبة إلى إدلب، لكن التعقيدات تستدعي مقاربة مرنة وعقلانية. إذ لم يجرِ تجميع فلول الفصائل المقاتلة في إدلب تمهيداً لـ «مذبحة كبرى» يتمناها الأسد ويتولّاها الطيران الروسي مع الميليشيات الإيرانية، ولا لدفع مليوني لاجئ جدد إلى الخارج، بل إن لحظة إدلب هي الأكثر إلحاحاً لطرح حلٍّ سياسي حقيقي. هنا ينكشف التهرّب الروسي من الاستحقاق بل ينكشف خداع الوعود والأفكار التي تداولتها موسكو مع الكثير من العواصم طوال الأعوام الأخيرة، سواء بالنسبة إلى التعديلات الدستورية التي ترفض مسّها بصلاحيات الرئيس، أو «المجلس العسكري» لإصلاح البنية الأمنية للنظام وقد أوحت مراراً بأنه شبه محسوم، أو أخيراً تركيبة الحكومة «الانتقالية» ورئيسها وقد أحاطتهما بسرّية تامّة.
بدت التحذيرات الخارجية من «كارثة» في إدلب كأنها غير اعتيادية. سلّطت موسكو الأضواء على البؤرة الإرهابية التي تمثّلها «هيئة تحرير الشام/ جبهة النُصرة سابقاً»، المرتبطة بمبايعة لتنظيم «القاعدة»، وردّت واشنطن التي لا تمانع ضرب «النُصرة» بتسليط الضوء على استعدادات النظام للضرب بالسلاح الكيماوي تسريعاً لحسم المعركة. جنّدت موسكو «مبعوثها» الأممي ستيفان دي مستورا ليدعم ذريعتها ضد الإرهاب ويمهّد للاجتياح متبرعاً بفتح ممرات إنسانية، وردّت واشنطن بإعلان تخلّيها عن الانسحاب من شمال شرقي سورية ودعم بقائها فيه بفرض حظر جوي مع تشجيعها فكرة إنشاء «إقليم سورية الشمالية». وبين هذه الاعتبارات وتلك كان على موسكو أن تجد حلّاً للحفاظ على شراكتها المتنامية مع تركيا، ذاك أن اجتياح إدلب يوسّع مصالح إيران ويقلّص طموحات رجب طيّب أردوغان في وقت يتوقّع أن تعزّز روسيا شراكتها معه، عدا أن تركيا تستند إلى وجود نحو أربعة ملايين لاجئ سوري لديها لتعتبر أن مصالحها في سورية أهم من مصالح إيران.
على هامش هذه التعقيدات وفي صميمها، يبدو أن موسكو باشرت البحث عن بديل من دي مستورا، فالأخير احترق منذ فترة طويلة لكن الدعم الروسي أبقاه في مهمتّه بمقدار ما استهلك صدقيته. ليس لدى موسكو مرشحون كثر وربما تريد استباق أي مطالبة أميركية بمبعوث جديد، لذا فهي تدفع ببديل هو نيكولاي ملادينوف، وزير الخارجية البلغاري السابق والرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة في العراق ثم بدءاً من 2015 المنسّق الأممي الخاصّ لـ «عملية السلام في الشرق الأوسط»، وقد شكته السلطة الفلسطينية إلى مجلس الأمن أخيراً بسبب تجاوزه صلاحياته في إعداد «اتفاق التهدئة» بين إسرائيل وغزّة. تروّج موسكو لملادينوف بأن لديه خبرة في «الانتقال السياسي» استمدّها من تجربة بلغاريا التي لم تشهد صراعاً داخلياً مسلحاً ولا تعرّضت دولتها وجيشها لانشقاقات خطيرة. هل تجد موسكو في «النموذج البلغاري» ما يناسب سورية، وهل يناسب الأسد وزمرته؟ من الآراء المسجّلة لملادينوف، خلال ندوة في مركز «بروكينغز» بالدوحة، أن «ثمة ثمناً يُدفع لأي تفكيك فوري للأجهزة الأمنية للنظام السابق، لكنه يصبح أكثر كلفةً إذا لم يتمّ (التفكيك) بعد وقت قصير من سقوط أي نظام شمولي». ومع تشديده على «الانتقال من دون إحداث فراغ في السلطة» يعتبر أن «أي نهج يجب أن يجعل الأجهزة الأمنية تحت مساءلة القيادة المدنية للبلاد...!».