للعراقيين لعبة يسمونها “لعبة المحيبس”، وهي من تقاليدهم الرمضانية التي اعتادوا عيها من زمن طويل. والمحيبس هو تصغير محبس، وهو الخاتم، في لهجة أهل العراق.
وتتلخص اللعبة باجتماع فريقين من حييْن متنافسين من مدينة واحدة، أو من مدينتين متخالفتين ومتصارعتين، ولا يقل كل فريق عن خمسة من أثبت الرجال وأقدرهم على التمويه والخداع، فيعمد الفريق الذي فاز بالمحبس إلى رفع ستارة، تكون غالبا بطانية، تخفي أيدي أعضائه عن عيون الفريق المنافس ليتم إخفاء المحبس في يد واحد منهم ثم تُرفع الستارة، ويصبح على رئيس الفريق المنافس أن يثبت فراسته وشطارته وذكاءه فيكشف اليد التي تخفي المحبس بضربة واحدة، ولا يسمح له بإعادة المحاولة إن أخطأ.
ولا يوجد ما ينطبق على اللعبة السياسية العراقية التي ابتلي بها الوطن منذ الغزو الأميركي للعراق حتى اليوم، وخاصة في سباقات الكتلة الأكبر النيابية الجارية حاليا، سوى لعبة المحيبس، مع الأسف الشديد.
فكلٌ من المتنافسين يبحث عن الخاتم المخبّأ في يد واحد من هذا الفريق أو ذاك. ومن أجل الوصول إليه لا بأس من أن يستخدم كل مواهبه في الكذب والتلفيق والنصب والاحتيال، والأشطر هو الذي يبكي أكثر ويلطم أشد على العدالة والديمقراطية والنزاهة وحقوق الطائفة والمنطقة والدين.
ألم تر كيف تبارى الباحثون عن المحيبس في تسمية تحالفاتهم وكتلهم وأحزابهم؟ فجميعهم يتسمون بالقيم النبيلة المفقودة التي يبحث عنها العراقيون طيلة هيمنة هؤلاء الخارجين على القانون، مثل البناء والإصلاح والإعمار والقانون والنصر وعطاء وإرادة والقرار والحكمة وعابرون.
وكما عودوا العراقيين على الغش والتزوير في الخمس عشرة سنة الماضية، عمدت الكتلتان معا إلى الزج بأسماء مؤيدين مزعومين، يشجبون ضمهم ويهددون بمقاضاة من وضع أسماءهم ضمن قوائمهما.
أما الطرفان الرئيسان في اللعبة فهما أميركا وإيران. ولكل منهما محبسُه المطلوب في صراع النفوذ والمصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية الدائر بينهما في العراق، بالوكالة.
فمن أجل الوصول إلى المحبس لا بد لكل منهما من معاونين وخدم وجواسيس من أهل الوطن. ولا نكذب على بعضنا. فإن إيران وأميركا موجودتان في الفريقين المتنافسيْن، شاء من شاء وأبى من أبى. فلكل منهما سفراء معتمدون في كتلة هادي العامري ونوري المالكي، وفي كتلة مقتدى الصدر وعمار الحكيم، سواء بسواء.
فقطر تمثل أميركا في تكتل الفتح بوكلائها أعضاء فرقة “التجار السنة” المعروفين بمهنة التهريب والمتاجرة بالشعارات والاعتصامات، والمتنعمين بالريال القطري المجاهد، بلا حدود.
وأميركا موجودة في “سائرون” أيضا، وينوب عنها حلفاء مُعتَّقون مجرَّبون لا يَخشى أميركي واحد من غدرهم، أو من انقلابهم على من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
وإيران موجودة، هي الأخرى، في الكتلتين. فهادي العامري ونوري المالكي وباقي المجاهدين في كتلة “الفتح” أولادُها الأوفياء الذين قاتلوا معها في حربها مع بلادهم، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
وفي كتلة “سائرون” لا يمكن اعتبار مقتدى الصدر وعمار الحكيم وحيدر العبادي من أعدائها، ومن المتمردين عليها، وإن أكثروا من خطاباتهم الحماسية وبياناتهم وتصريحاتهم عن القرار المستقل، وعن رفضهم الوصاية الأجنبية، وعن الميليشيات الوقحة.
فلكل واحد من هؤلاء سبُبه الذي يدفع به إلى مناكفة قاسم سليماني الذي غدر به وحاول كسر هيبته وإبعاده عن اللعبة أو تهميش دوره فيها، ولا يَطلب سوى أن يتنبه له الباب العالي في طهران، وأن يعود إلى أحضان الولي الفقيه، وأن تُفرك أذن قاسم سليماني. وأما ما يلي ذلك فللأم الرؤوم، إيران، ما تتمنى وما تشتهي. ولتشخيص محيبس كل واحد من وكلاء الولي الفقيه وسفراء العم سام الذي يتقاتلون من أجل الوصول إليه نقدم هذه الوصفة العاجلة:
هادي العامري: محبسُه إرضاءُ الولي الفقيه وإثباتُ ولائه المطلق. هذا من باب العقيدة والولاية، أما من باب المصلحة الشخصية فإن حكومة لا يمسك هو وحلفاؤه وأتباعه بخناقها سوف تُذهب عنه الوجاهة وقد تجرح هيبته لسبب أو لآخر، يوما من الأيام. ومن يدري ماذا سيستجد في السنوات الأربع المقبلة من تقلبات ومفاجآت؟
نوري المالكي: يخاف من حكومة يستطيع بها حيدر العبادي ومقتدى الصدر أن يثأرا منه ويكشفا بعض ملفاته القديمة، وقد يُضطران، لمداهنة الشارع المنتفض خصوصا في البصرة والموصل، إلى سَوْقه إلى العدالة ومحاكمته على شاشات التلفزيون في واحدة من صفحات تاريخه الأسود الطويل.
حيدر العبادي: إن عدم فوزه بولاية ثانية كارثة عليه بكل المقاييس، خصوصا لو امتلك السلطة والقوة والثروة خصمُه القديم نوري المالكي وخصومُه الجُدد قاسم سليماني وهادي العامري وفالح الفياض وأبومهدي المهندس وقيس الخزعلي فيفتحون ملفاته السابقة ويزجّون به في غياهب السجون.
وهو إذ يجنح، مجبرا أخاك لا بطل، هذه الأيام لأميركا ويشاكس إيران فإنه يعتقد بأن هذا هو الخيار المتاح أمامه لاستعادة الرضا الإيراني، من جديد، ولإقناعها باعتماده وسيطا موثوقا به بينها وبين أميركا، مثلما كان يفعل في طول دورته السابقة وعرضها. فليس أفضل منه لتلطيف أجواء نزاعها الساخن مع دونالد ترامب الذي يحاول خنقها اقتصاديا، وإحراجها أمام شعبها وتهديد أمنها إلى حد بعيد.
مقتدى الصدر: لا يصدق سوى المخدوعين أن مقتدى يفكر مجرد تفكير، بقلب ظهر المجن لحليفته وممولته السابقة، إيران، وإن كل ما يطمح إليه هو كفُ يد قاسم سليماني عنه وعن تياره، وعدم إعانة خصومه عليه، نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي.
سنة إيران وأميركا: لكل واحد من اللاعبين السنة محبسُه الخاص أيضا، وفي أغلب حالاتهم تكون وصاية ولية أمرهم، قطر أو أميركا أو إيران، إحدى فرائضهم الخمس، حتى لو أغضبوا طائفتهم وشعبهم، وربحوا وزارة أو وزارتين أو ثلاثا من ذوات المن والسلوى، وحتى لو داسوا على كل خطاباتهم الجهادية القومية الطائفية الدينية السابقة ضد الاحتلال الإيراني، وضد ظلم المالكي وخيانة العامري وقبَّلوا وجنات أعدائهم السابقين، وطلبوا منهم العفو والغفران.
وأما الأكراد فالكتلة التي سوف يتكرمون بالانضمام إليها هي التي تدوس على كل القيم الوطنية التي يثرثر رؤساؤها بها، وتتعهد بإعادة الاعتبار لفلان وعلان، وزيادة مداخيله، باسم المظلومية الكردية، وتُرجع إليه إمبراطوريات نفوذه النفطية والمالية السابقة، كاملة غير منقوصة، وتحقيق جميع شروطه التعجيزية، حتى لو طلب منها وضع كاكه هوشيار زيباري المطرود من وزارة المالية لفساده في أعلى كرسي مذهّب في القصر الجمهوري، خلفا لسلفٍ لم يهش ولم ينش ولم يفلح سوى في إثراء بناته وأصهاره وكل أفراد أسرته وأقاربه أجمعين.
وحتى ساعة كتابة هذه المقالة لم يُبلَغ المواطنُ العراقي، والبصري والموصلي بالتحديد، من الذي وجد المحيبس أخيرا، ومن الذي ما زال يبحث عنه في أيادي اللاعبين الصغار والكبار. و”جيب ليل وخذ عتابة”.