بعيداً عن التشنجات والانفعالات التي ما زال من الممكن احتسابها، حتى اللحظة، "أعراضاً جانبية"، فقد تجاوزنا مراوحة الشهرين الفائتين الى حيث التحريك السياسي مطلع هذا الشهر، المتمثل بصيغة التشكيلة الحكومية العتيدة التي تقدّم بها الرئيس المكلّف بالتشكيل سعد الحريري الى رئيس الجمهورية ميشال عون، ومحاولة هذه الصيغة الجمع بين وضعها الاطار التوزيعي الناظم للاحجام والحقائب، وبين قابليتها للتكيّف والتعديل من ضمن هذا الاطار، اي من ضمن معادلتها الرابطة والمرتبطة بتمكين العمل الحكومي والتقليل قدر الممكن من سهولة التعطيل او سرعة العطب. يواكب هذه الصيغة جملة مناخات، تنبثق من اعتبارات عدة، ومتقاطعة مع بعضها البعض بالمحصلة، للتشديد على الالتزام بصريح الدستور لأجل إتمام عملية التشكيل هذه، والاقلاع بالحكومة بعد ذلك، والانصراف سريعاً لمعالجة الداهم من قضايا وملفات واعتبارات اقتصادية ومالية.
لا يعني هذا ان التشاؤم من الوضع السائد حالياً، والمنتشر في الرأي العام الى حد كبير، هو تشاؤم خاطىء. ابداً، ما زالت التشنجات والانفعالات والمكابرات ضمن خانة "الأعراض الجانبية" في اللحظة الحالية، لكن منسوب التأزّم السياسي والتصدّع المؤسسي لا ينفك يكبر، ويسابقه التأزّم في اوضاع الناس والبلد، بحيث ان "منع التقاء التأزّمين" لم يعد امراً سهلاً، وبسيطاً، يمكن اجتراح الوصفات السحرية له. صحيح ان التقيّد بصريح الدستور ضروري اليوم أكثر من اي وقت مضى، لكن الصحيح ايضاً ان التركيبة مبنية، نصاً ومعنى، على "درء الخلافات" مسبقاً بدلاً من ادارة الخلافات ونظمها، وبالتالي تجاوزها، وارتباط تجاوزها بعملية تداول السلطة، وتحمّل المسؤولية. الافتقاد الى "لعبة مؤسساتية" محبوكة دستورياً على نحو منهجي وشامل وواضح، يفتح السبيل دائماً "للعب على المؤسسات"، واللعب بها. وهذا لن يلغيه تجاوز القطوع الحالي - اذا تأمّن السبيل والادراك لذلك، او الدوران فيه في حلقة مفرغة.
نعم، ثمة ضمانات ملحوظة دستورياً تحول دون الاستفراد والتجبر والعشوائية والاستنسابية، وهذه لا بد من الإصرار عليها أكثر وأكثر، لكن ليس ثمة في المقابل من اطار ناظم دستورياً في بلدنا للاوضاع التي يحصل فيها احتكاك أو يتأخر فيها توافق. في الديموقراطيات البرلمانية "الطبيعية" ثمة أكثرية تحكم وأقلية تعارض، أكثرية تصبح أقلية، وأقلية تصير أكثرية وتحكم بدورها. وإذا لم يتعذّر الامر، وتأرجحت الأكثرية او لم تتأمّن بسبب انقسام الكتل على بعضها البعض، يتم اللجوء الى انتخابات برلمانية مبكرة. ليس ثمة اي شيء من هذا القبيل في كامل الاسس المكرّسة لبنانياً، وحتى لو انه لا بد من تقبّل تعقيدات الوضع الطوائفي الى آخر المعزوفة، فإن مشكلة هذه النغمة التوافقية، التي تنكشف في كل مرة توافقية من جانب واستنسابية بل تغلبية من جانب آخر، "يأخذ على خاطرها" بحساسية مرهفة حيناً، وترشق الناس بالحجارة حيناً آخر، بلا وجل، هي مشكلة جدية وما عاد من الممكن توريتها او "تجميلها" او تسويغها بأمور أكثر خطورة.
وجزء من المشكلة، ليس جزءاً سطحياً ابداً، ان القوى المتضررة اليوم من الاستنسابية الجوفاء، ومن اللامعيارية التي ترى نفسها ميثاقية، هي قوى عازفة عن بلورة اطار برنامجي لتقاطعها السياسي الحالي، في الوقت الذي بات يفرض فيه الوضع، بأقل الايمان، مثل هذه الصياغة البرنامجية، التي لا يمكن ان تتم فقط بإحياء "نوستالجيا 14 آذار" مثلاً، وإنما من الضرورة بمكان ان تطرح على نفسها وعلى سواها، كيفية الانتقال من ذهنية "درء الخلافات" التي لا تؤدي إلا الى تفاقم الخلافات، ومداواتها المؤقتة بالاستنسابية والعشوائية وبشروط تغلّب واستفراد فئة بفئة، الى حيث "تنظيم الخلافات" في اطار مؤسساتي، يقلّل جدياً نوبات "الشخصنة" والانفعالات المصاحبة لهذه النوبات، والشحن الطائفي والمذهبي الذي تستثمر فيه هذه الشخصنة.
الصيغة الحكومية المقترحة حالياً تحكم اللحظة الحالية بإطار لا يمكن طرحه من المشهد بالانفعالية فقط، والتشنّجات، بل ان التشنّج والانفعال من جملة ما يجعل هذه الصيغة بمثابة الاطار اللازم لاي مداخلة سياسية عملية ذات مغزى في الوقت الحالي. في الوقت نفسه، التصدع في التركيبة لا يمكن "تلحيمه" بأي صيغة كان، من دون المسارعة للتأسيس لمقاربة مشتركة تُبدي سأمها من منطق درء الخلافات، مرة بـ "يا عيني يا روحي" ومرة بالاستنساب والتغلّب والاستفراد، وفي كل الحالات تحت مسمّى التوافقية والميثاقية، الى المنطق الدستوري التعددي المؤسساتي الجدّي: وهذا يقوم على الربط بين تحمّل المسؤوليات وتداول السلطة وتنظيم الخلافات، وليس، ابداً، توهّم إلغائها، او درئها المسبق، وهو وهْم لا يسهم الا بشخصنتها وتطييفها، وجعلها تتكدّس فوق بعضها البعض.