بعد أسابيع قليلة على الرابع والعشرين من أيار تاريخ تكليف الحريري، برزت أولى العقد الحكومية أواخر حزيران إثر سقوط أولى التشكيلات المقترحة في ظلّ أجواء تشنّج رافقت النقاش الدائر حول تطورات الأزمة السورية وسفر بعض الوزراء الشيعة الى دمشق للمشاركة في معرض لإعادة الإعمار. وهو ما قاد الى أولى المواجهات المحدودة بين بيت الوسط والثنائي الشيعي.
وتجلّت هذه المواجهة التي عُدَّت الأولى بـ «تهديد» رئيس مجلس النواب نبيه بري بالدعوة الى جلسة نيابية للمجلس الجديد للبحث في ما يعيق تشكيل الحكومة العتيدة. وهو ما عُدّ افتئاتاً على صلاحيات الرئيس المكلّف، فالتكليف برأي بيت الوسط لا مهل امامه ولا دور لأيٍّ كان لا لمجلس النواب ولا لرئيس الجمهورية.
وبفارق أيام وتحديداً في السابع والعشرين من تموز الماضي أطلق النائب اللواء جميل السيد تغريدة على موقعه الخاص طالب فيها النواب بعريضة يوقّعها أكثرية اعضاء المجلس النيابي وتتضمّن طلباً بـ «سحب التكليف من الرئيس الحريري في الإستشارات النيابية الملزمة» لإبطال مهمّته في تشكيل الحكومة وإعادة الإستشارات من جديد. وهو ما قاد الى اتّهام دمشق بالتدخل في العملية الدستورية. وبعد أن دعا الحريري اللواء السيد الى «تبليط البحر» تحرّك رؤساء الحكومات السابقون من جديد وقصد الرئيس فؤاد السنيورة عين التينة ليبلغ الرئيس بري موقفاً رافضاً لما يشكّل مسّاً بصلاحيات الرئيس المكلف وبالتالي عدم الخروج عمّا قال به الدستور ترجمة لوثيقة الطائف.
وعلى ما ظهر لاحقاً، فإنّ زيارة السنيورة فعلت فعلها بعدما تزامنت ومواقف أخرى دستورية وسياسية تتحدث عن مهلة مفتوحة امام الرئيس المكلف، فتبدّل الحديث في عين التينة وتحوّلت الدعوة الى «جلسة تشاورية» لمناقشة التطورات العامة ومنها ما يعوق تشكيل الحكومة من عقبات وشروط بدا الخلافُ في توصيفها يكبر حول كونها داخلية أم خارجية، وخصوصاً انها ترافقت وحملة شنّها «حزب الله» على المملكة العربية السعودية التي كان الحريري قصدها قبل فترة وصولاً الى اتّهامها «بخطف» الحريري مرة ثانية وهو ما يحول دون تشكيل الحكومة.
وبعدما طُويت المواجهة الأولى بين بيت الوسط وعين التينة بأقل الخسائر الممكنة وبصمت لاذت به دوائر مجلس النواب بعد أن صرفت النظر عن تلك الجلسة، اندلع «الإشتباك الثاني» بين بيت الوسط وبعبدا. وتنامى وكبر الى الحدود القصوى جراء تسريب الفتوى التي أعدّها وزير العدل سليم جريصاتي في 25 آب والتي تحدثت عن إمكانية تدخّل رئيس الجمهورية لتسريع عملية التكليف على خلفية عدم جواز «أن تبقى البلاد والعباد في ظلّ حكومة تصريف أعمال بالمعنى الضيّق، ولا سيما اذا كان لبنان يمرّ بمرحلة حسّاسة حيث التحدّيات على أكثر من صعيد»، وإصراره على وجود دور لرئيس الجمهورية في تقليص فترة التشكيل الى الحدود الممكنة.
وفي الوقت الذي اقترح فيه جريصاتي في فتواه على رئيس الجمهورية توجيه رسالة الى مجلس النواب عملاً بأحكام المادة 53 فقرة 10 من الدستور، وذلك مباشرة أو بواسطة رئيس المجلس وفق آلية تدفع المجلس في الحالين الى اتّخاذ الاجراءات المنصوص عنها في المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس النيابي تمهيداً لانعقاده بغية مناقشة مضمون الرسالة الرئاسية، واتّخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار المناسب بالأكثرية العادية. كأن يُصار مثلاً إلى حثّ رئيس الحكومة المكلّف على اعتماد المعيار الواحد في التأليف و/أو عدم احتكار فريق سياسي واحد لطائفة بأكملها في الحكومة و/أو إلتزام مبدأ العدالة بمفهومه الواسع عملاً بالفقرة «أ» من المادة 95 من الدستور».
وعليه، جاءت هذه الفتوى بما تضمّنته من ملاحظات باتت من ثوابت موقف رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» لاحقاً، لتنقل المواجهة الصامتة بين بيت الوسط وقصر بعبدا الى العلن وارتفع صوت رؤساء الحكومات السابقين مرة أخرى. فالتقوا في بيت الوسط مجدداً على خلفية الوقوف الى جانب الحريري والتأكيد على صلاحيات رئيس الحكومة، كما أصدروا في فترة قياسية بيانين تأكيداً على موقفهم من أزمة التكليف. هذا قبل أن يزور الرئيس السنيورة البطريرك الماروني بشارة الراعي صباح الخميس الماضي في 30 آب الماضي «محذِّراً من مغبّة استمرار «حرب الفتاوى» ولتدارك ما يمكن أن تؤدي اليه المواجهة الدستورية مع بعبدا، في الوقت الذي «يحاول البعض الالتفاف على صلاحيات الرئيس المكلّف ودوره». وحرصاً على «الحياة الميثاقية والتآلف الناشئ منذ سنوات بين القوى المؤمنة بسيادة لبنان واستقلاله» كما قال مَن اطّلعوا على تفاصيل اللقاء بينهما.
وكان لافتاً أنّ زيارة السنيورة الى الراعي هي التي قادت الى طلب البطريرك موعداً عاجلاً لزيارة رئيس الجمهورية فكانت عصر اليوم عينه سعياً الى طيّ المواجهة المحتملة بين بعبدا وبيت الوسط. لكن على ما يبدو أنها لم تقفل بعد بدليل صدور البيان الثالث أمس الأول عن رؤساء الحكومات السابقين الثلاثة رداً على بيان مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية في مواجهة دستورية تبدو «ناعمة» لكنها عميقة ومرشّحة الى التفاعل في المدى القريب إذا ما بقيت هذه المواجهة مفتوحة بين الطرفين.
تجدر الإشارة الى أنه وفي مقابل إظهار كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة نيّتهما بالتعاون الى النهاية الحتمية للمهمة التي كلّف بها الحريري، ما زالت حرب الفتاوى الدستورية مستعرة بالوكالة بين الطرفين. ورغم أنهما ينطلقان في جانب منها من المواد الدستورية عينها، لكنّ قصر بعبدا تمايز في ردّه على البيان الأخير بالتوسّع أكثر باتّجاه صلاحيات رئيس الجمهورية التي غفلها بيانُ الرؤساء الثلاثة وهو ما ترك الباب مفتوحاً أمام المواجهة التي قد تستعر وتطول ما لم تنجح الاتّصالات الجارية من وسطاء قلائل في تهدئة الوضع. وإلّا فإنّ الغموض سيلفّ كل الاحتمالات المتوقّعة في القريب العاجل لتبقى متأرجحةً بين خيارَي التطويق أو الانفجار.