تطلق "النهار" حملة توعوية في مواجهة العوامل التي تساهم في الانتحار. ارتأينا بأن واجبنا كوسيلة اعلامية موثوقة يكمن في لعب دور بمعالجة عميقة للأسباب والظواهر الاجتماعية التي يقول المختصون انها تؤدي الى اقناع شخص في لحظة مأسوية بانهاء حياته.
بدءاً من اليوم وحتى تاريخ العاشر من أيلول الذي يصادف اليوم العالمي للتوعية من الانتحار، نبدأ بنشر سلسلة من المقالات ضمن ملف على موقع "النهار" يتضمن مقالات علمية من مختصين وشهادات حياة واحصاءات من لبنان والعالم. كذلك نطلق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم #ما_تخبّي_احكي، ونعرض عدداً من المواد المصورة المختصة في الـWeb Tv.
البداية، مع مقال للاختصاصية النفسية ميا عطوي، وهي احدى مؤسسي جمعية Embrace:
نستطيع القول في العام 2018 أن الحوار حول الصحة النفسية في لبنان بدأ يأخذ زخمه. في حين قد يعتقد البعض أننا ما زلنا في بداية هذا الطريق. يمكننا القول بالتأكيد أن السنوات الخمس الماضية، والأشهر الستة الماضية بالأخص قد شهدت تغييراً كبيراً في حالة الوعي حول الصحة النفسية والموارد الموجودة في لبنان.
شهد هذا العام ازدياداً ملحوظاً من ناحية تناول موضوع الصحة النفسية وخاصةً في الاعلام اللبناني، مما يشدد على ضرورة تسليط الضوء عليه وعلى النشاطات الذي تقوم بها الجمعيات والمجتمع المدني لتأمين بيئة حاضنة أكثر لمن يمر بتجارب المرض النفسي. ويأتي هذا التغيير بعد سنوات من البحث الأكاديمي، الضغط السياسي، حملات التوعية وإطلاق استراتيجية وطنية للصحة النفسية من وزارة الصحة العامة في لبنان في عام 2014.
ووصمة العار التي تلاحق المرض النفسي
مفهوم المرض النفسي والصحة النفسية ليس مفهوماً جديداً في لبنان، فإن الدراسات قد اظهرت أن واحداً من أصل 4 أشخاص سوف يعاني بفترة خلال حياته من مرض نفسي يستدعي نوعاً من العلاج النفسي والطبي. تركت سنوات الحروب الطويلة التي عانى منها لبنان أثرًا واضحًا على الأجيال التي عاشت من خلالها، والأجيال اللاحقة التي عاشت أيضاً الحرب من خلال آبائها وأجدادها. كان اللبنانيون طوال هذه السنوات يلجأون بالفعل الى خدمات الرعاية النفسية، إلا أن هذا النوع من الخدمات لا يزال مقتصراً على شريحة معينة من الناس الذين يستطيعون تحمل تكاليفها ، والذين لديهم المعرفة الكافية للاعتراف بالحاجة إليها.
تمثل كلفة الرعاية والمعرفة بأعراض المرض النفسي والوصمة العوائق الرئيسية التي تواجه المجتمع اللبناني اليوم. فقد بينت الدراسات أيضاً أن شخصاً واحداً فقط من أصل عشرة أشخاص سوف يلجأون إلى العلاج النفسي والطبي حين يستدعي الأمر. تستمر هذه العوائق في خلق فجوة في نظامنا- فجوة تضع وبشكل واضح الكثير من اللبنانيين في وضع غير مؤات الى السعي للحصول على خدمات الرعاية النفسية والتي يعتبرها الكثيرون احتياجات إنسانية أساسية. وهذا الوضع يشكل عامل خطر لتفاقم المرض النفسي وتزايد حدته، ما قد يؤدي الى صعوبة العلاج وإلى عواقب أخرى وخيمة مثل الانتحار.
شيء يمكن التحكم فيه؟
نعم، الصحة النفسية حاجة أساسية والوصول إلى خدمات الصحة النفسية يجب أن تكون متاحة مثلها مثل خدمات الصحة البدنية- وهذه حقيقة يزال الكثيرون لا يفهمونها. أحد أسباب ذلك هو أن الصحة النفسية مرتبطة منذ فترة طويلة بقدر كبير من الوصمة. إن مجتمعنا يعاني من الاعتقاد الخاطئ بأن الصحة النفسية هي انعكاس لشخصية الانسان و أنها "شيء يمكن التحكم فيه".
إذا لم يكن بإمكانك التحكم بصحتك النفسية، فأنت شخص ضعيف، وتفتقر إلى نوع من الانضباط أو القوة. هذه هي بعض من المعتقدات الخاطئة الموجودة في مجتمعنا. علاوة على ذلك، لا يتجرأ المرء على فتح محادثة حول موضوع الصحة النفسية مع أحبائه أو أصدقائه أو أفراد أسرته، دون أن يكون حذراً بشكل خاص، ودون التعرض لمشاعر الإحراج أو الشك أو الخجل بعد ذلك.
الشعور بالعار والذنب
من إحدى أكثر الكلمات التي يمكن سماعها والتي تهمس خلف أبواب العيادة النفسية "إن مشاعري ومشكالي سخيفة للغاية، لا أعرف لماذا أنا هنا ولماذا أناقشها معك. يجب أن أحتفظ بها لنفسي وأستجمع قواي بنفسي". كاختصاصية نفسية، أرى كيف تعكس هذه الكلمات شعوراَ بالعار والذنب، فنحن شعب لم يعتد الإفصاح عن مشاعره، ولم يعتد الفكرة الطبيعية والصحية التي تعني أن لكل منا آلامه، وصراعاته ونقاط الضعف التي تجعل من كل منا انساناً ولنا كل الحق باختبار هذه المشاعر واللجوء الى المساعدة حين نحتاج اليها.
بالرغم من أن السبب الحقيقي لأغلب الأمراض النفسية غير معروف، إلا أنه أصبح من الواضح من خلال الأبحاث أن العديد من هذه الحالات ناتجة عن مجموعة من العوامل البيولوجية والنفسية والبيئية. أخيراً، تتغير المفاهيم الخاطئة حول المرض النفسي. تتجاوب الأسر والأفراد مع الحقائق العلمية، وتسمح الحملات والجهود الوطنية، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، بنشر هذه الرسائل بشكل أسرع وأكثر فعالية مما اعتدناه.
"فكّوا العقدة"
يعمل الاختصاصيون في الصحة النفسية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأكاديمية والحكومية في لبنان، كل على طريقته الخاصة، على المطالبة بالحاجة إلى فتح الحوار حول الصحة النفسية في لبنان والدفع لمزيد من الموارد وقدرة الوصول إلى العلاج وتحمّل عبئه.
فكرة أن "الحكي بيطوّل العمر"، يمكن أن تحمي الكثير من الأشخاص من الحالات المزاجية الصعبة، والشعور بالوحدة، والعزلة، وانعدام الثقة بالذات، والغضب، واليأس أمر يبعث الأمل. ما قامت به جمعية Embrace في السنوات الخمس الماضية هو فرض هذا الحوار في العلن.
الحملات التي قامت بها الجمعية مثل حملة "فكّوا العقدة" و"أكيد رح فيق" والمسيرات السنوية عند الفجر دعماً لذكرى ضحايا الانتحار وعائلاتهم، وأخيراَ اطلاق أول خط ساخن للوقاية من الانتحار (Embrace Lifeline 1564) ، في لبنان والشرق الأوسط يعني أننا قد خطونا خطى كبيرة في محاربة التابو المتعلق بالمرض النفسي. نحن اليوم كمجتمع، مستعدون أكثر لاحتضان الأمراض النفسية وتحمل مسؤولية السعي إلى العلاج و التغيير وتحسين نوعية حياتنا نحو الأفضل.
(ميا عطوي)