الطريف في الأمر انّ المسؤول الكبير فاجأ السياسي المذكور بأن أرسل اليه صورة تُظهر سيارة «ستايشن» في داخلها جمل بالفعل، وأرفقها بالآتي «الشخص الذي أدخل الجمل في هذه السيارة، هو الوحيد القادر على تشكيل الحكومة اللبنانية». وختم بملاحظة معبّرة: «.. وما زال البحث جارياً عن هذا الشخص ولم يُعثر عليه بعد، ومن يعرف عنه شيئاً يرجى الاتصال بالدستور».
هاتان الصورتان تعبّران بالفعل عن واقع التأليف المعقد، الذي أطاح بالامس، بمسودة حكومية جديدة وأعاد الامور الى نقطة البداية بتعقيداتها وصواعقها والغامها وعبواتها الناسفة لإمكانية التوافق على تشكيلة حكومية موضوعية مراعية للتوازنات الداخلية. ما يعني مزيداً من الانتظار، والى ان يقضي الله امراً كان مفعولاً.
لم يكن مُعدّو هذه المسودة يتوقعون سقوطها السريع والمدوّي، بل على العكس، كانوا غارقين في التفاؤل، وعلى شبه يقين بأنّ هذه المسودة ستمرّ بكل انسيابية وسلاسة من «خرم» الإبرة الرئاسية، وانّ ولادة الحكومة ستُعلن خلال الأسبوع الحالي.
فخلال مشاركته في مناسبة خاصة في الغردقة قبل 3 ايام، اقتربت شخصية لبنانية من الرئيس المكلف سعد الحريري واستفسرت منه عن موضوع الحكومة، فبادر الى جواب سريع وقاطع: «صارت قريبة... والمسألة مسألة أيّام قليلة».
كان الحريري يتحدث بثقة المتفائل بانّ الامور «صارت خالصة»، وان المسودة التي اعدّها قبل سفره الى الغردقة، تجاوزت كلّ الالغام المزروعة في طريق الحكومة. وهذا التفاؤل كان سحب نفسه على محيط الرئيس المكلف، انّما بشكل مبالغ فيه عند بعض المقرّبين، الذين أكدوا لبعض الأصدقاء منتصف الاسبوع الماضي «ان كلّ الامور على خطّ التأليف قد حُسمت وانتهى الامر، و«بتشارطوا» ان الحكومة قبل يوم الثلثاء» ايّ يوم أمس! قيل لهذا البعض «كيف حُلت العقد»؟ فكان جوابه «لا تجادلوني انتظروا الثلاثاء». وقيل له ايضاً على ايّ اساس تمّ حلّ العقد؟ فردّ بشكل حاسم وجازم» أستطيع ان أقول لكم انّكم سترون مفاجآت الثلثاء».
مرّ الثلثاء، وتأكد ان هذا التفاؤل لم يكن في محلّه، بل ذاب بالكامل في لحظة سقوط مسودة الحريري بالضربة العونية القاضية، وفرضت الملاحظات الرئاسية على الرئيس المكلف ان يعود الى الدوران من جديد في حلقة التعقيدات المقفلة. علماً انّ المسودة سقطت اولاً في لقاء الرئيس المكلف بالوزير جبران باسيل، قبل سقوطها في بعبدا، وثمّة من يتحدث عن انّ البيان الرئاسي الصادر بعد لقاء عون والحريري في بعبدا، جرى إعداده قبل وصول الرئيس المكلف الى القصر الجمهوري، لأنّ من في القصر كانوا عالمين مسبقا بأنّ «الامور مش ماشية، وأنّ الحريري سيسلّم رئيس الجمهورية مسودة حكومية مرفوضة سلفاً».
ما ينقل عن الأجواء الرئاسية، يفيد باستياء واضح مما يسمونها «محاولات جدية لفرملة العهد»، مقرون بسلسلة أسئلة: لماذا الاصرار على تقديم مسودات حكومية ما هي إلاّ تكرار لسابقاتها؟ ولماذا الاصرار على تقديم مسودات سبق ان رفضت مثيلاتها لتجاوزها الانتخابات النيابية وافتقادها منطق ومعيار التمثيل الحقيقي للقوى السياسية في هذه الحكومة؟ ولماذا تقديمها من الأساس طالما هي مرفوضة سلفاً؟ وهل هذا الاصرار متعمّد يراد من خلاله القاء الكرة في ملعب رئيس الجمهورية وتصويره في موقع المعطل للحكومة؟ ام ان ّهذا الاصرار ناجم عن خطأ او سوء في التقدير؟ ولماذا الاصرار على تعطيل الحياة السياسية ورهن الحكومة لـ«القوات اللبنانية» ووليد جنبلاط، وربط تأليفها بإرضائهما ونفخ حجميهما دون سائر الآخرين وعلى حساب الآخرين؟
وما ينقل في المقابل عن اجواء بيت الوسط، يفيد بشعور بأن ثمة من يرمي المسامير تحت عجلات التأليف، وأنّ ثمّة من يسعى لكسر مهمة الرئيس المكلف ويحبط رغبته الشديدة في تأليف حكومة موضوعية ومتوازنة في اسرع وقت ممكن، وقرار الحريري الّا يستسلم امام هذه المحاولات، بل ان يستمر وسيشكل حكومته حتماً، وفي فمه كلام كثير سيقوله في حينه.
الواضح في أجواء شريكي التأليف، ان الانسجام والتناغم اللذين يفترض ان يسودا بينهما على خطّ توليد السلطة التنفيذية ليس كاملاً، بل يعاني الاهتزاز، خصوصاً في ظلّ «الحرب الباردة» المندلعة بينهما، والتي يستخدم فيها كلّ منهما اوراق قوته التي منحته إيّاها صلاحياته الدستورية، وتظهر ابرز تجلياتها بوضوح في تقاذف المسودات والمسؤوليات.
خلاصة المشهد، تعبّر عنه قراءة سياسية تفيد بأن «الحكومة «صار بدها حلم الله»، الجميع يلعبون لعبة كسب الوقت، التي هي تضييع الوقت، ومن الخطأ القول ان الامور عادت الى نقطة البداية على خط التأليف، بل عدنا عملياً الى مربع الخطر الأول للازمة في لبنان، والتي انفجرت حرباً اهلية في العام 1975، التي تمحورت حول عنوانين الاول هو صراع الطوائف على السلطة، والثاني موقع لبنان الاقليمي».
هذا هو حالنا اليوم. تضيف هذه القراءة، والصراع الدائر حالياً على خطّ التأليف، هو بين منطقين، يسعيان كلّ من موقعه الى تمرير «صفقة العصر» الخاصة به، التي تمكّنه من الامساك بالسلطة والقرار، ونجاح ايّ من المنطقين على الآخر سيوجّه الى كلّ اللبنانيين «صفعة العصر» ويضع البلد امام شتّى الاحتمالات. وبالتالي اول خطوة نحو التأليف تبدأ من تراجع المنطقين الى العقلانية، لكن هذا الامر لا يبدو ممكناً حتى الآن.