أكد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في كلمة له خلال رعايته افتتاح اعمال المؤتمر الخامس والعشرين للمدارس الكاثوليكية في لبنان بعنوان "استمرارية المدرسة الكاثوليكية: شروط وتطلعات"، في ثانوية مار الياس للراهبات الأنطونيات في غزير أنه "يسعدني أن أشارك في افتتاح هذا المؤتمر السّنوي الخامس والعشرين للمدارس الكاثوليكيّة، حول "خلود المدرسة الكاثوليكيّة: شروط وتطلّعات".
ولفت الراعي الى أن "لموضوع الذي اخترتموه لهذا المؤتمر: "خلود المدرسة الكاثوليكيّة"، لهو في محله تماما. لأنكم، إذ تصفون المدرسة الكاثوليكيّة "بالخلود" فأنتم تعلنون أنّ خلودها من صلب طبيعة الكنيسة ورسالتها، فالمسيح أرسلها قائلاً: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم... وعلّموهم... وأنا معكم طول الأيّام، حتى نهاية العالم" (متى 28: 19-20). وبالتالي تلتزمون، مع الكنيسة، بالمحافظة عليها، أمانةً للمسيح وللرّسالة التعليميّة الموكولة منه إليها، مهما كانت الصّعوبات والتحدّيات.
وأكّد القديس البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي: "رجاء جديد للبنان" أنّ "الكنيسة تتمتّع بتقليد ينبغي أن يُصان، وهي مدعوّة إلى أن تكون مربّية الأشخاص والشّعوب. فتولي المدارس الكاثوليكيّة اهتمامها بأن تشارك بفاعليّة في رسالة الكنيسة، وأن توفّر تعليمًا نوعيًا... وأسسًا ثقافيّة وروحيّة وخلقيّة، تجعل من الأجيال الطّالعة مسيحيّين ناشطين، وشهودًا للإنجيل، ومواطنين مسؤولين في بلادهم".
وأشار الى أنه "أصدر مجمع التربية الكاثوليكيّة في الكرسي الرسولي، للمؤسّسات التعليميّة توجيهات بعنوان: "التربية على الأنسنة المتضامنة، من أجل بناء حضارة المحبّة" (16 نيسان 2017). كتب القديس البابا يوحنا بولس الثانيفي رسالته العامّة الأولى "فادي الإنسان" (4 أذار 1979) "أنّ الإنسان هو طريق المسيح والكنيسة" (الفقرتان 13 و 14). وقياسًا نقول: هو طريق المدرسة الكاثوليكيّة، المؤتمنة على إكمال هذا الطريق الذي يتناول إنماء الإنسان بكلّ أبعاده العلميّة والروحيّة والأخلاقيّة والإجتماعيّة والوطنيّة. فتأخذ على عاتقها هذا الإنماء الشّامل".
وشدد الراعي على انه "عندما ينمو أبناء الوطن الواحد بالأنسنة، ويترابطون فيما بينهم بفضيلة التضامن، فيشعرون أنّهم كلّهم مسؤولون عن كلّهم، وبالتالي يحتاجون إلى تربية على المواطنة التي تتميّز بالديمقراطيّة التعدّديّة. وهذا ما تهدف إليه المدرسة عامّة والمدرسة الكاثوليكيّة خاصّة التي تعلّم المبادئ الوطنيّة السّليمة، بعيدًا عن أيّة إيديولوجيّة أو تأثير سياسي وحزبي أو أغراض خاصّة"، معتبراً أن "المدرسة الكاثوليكيّة الملتزمة هذه التربية هي حاجة ماسّة اليوم لوطننا لبنان. عندما نُقل لبنان يوم إعلانه في أوّل أيلول 1920، بمسعى من البطريرك الكبير خادم الله الياس الحويّك، من دولة الإنتماء إلى الدين والمذهب المعادية للديمقراطيّة، إلى دولة الإنتماء إلى المواطنة التي تولّد الديمقراطيّة التعدّديّة، سار لبنان على هذا الخط منظّمًا بالدستور والميثاق الوطني، وناميًا بالممارسة، حتى اتّفاق الطائف (1989). هذا الاتّفاق أكّد المواطنة على حساب الانتماء المذهبي، لكنّ القوى السياسيّة شوّهته بأدائها، وذهبت إلى إرساء نظام حزبي مذهبي جديد، أمّنت من خلاله بقاءها في السّلطة وتقاسم الحصص والوظائف وخيرات الدولة، مع إقصاء الغالبيّة من الشّعب اللّبناني غير الحزبيّة. وهكذا يجد المواطن نفسه أمام شرط الإنتماء إلى حزب طائفته لكي يتمكّن من نيل وظيفة أو المشاركة في إدارة شؤون الدولة".
وأشار الى أنه "هنا تكمن الأزمة السياسيّة الراهنة، والظاهرة حاليًا في أزمة عدم إمكانيّة تأليف الحكومة إلى الآن، والتي تتسبّب بالركود الشّامل، بل بالشّلل، وبعدم إمكانيّة النهوض الإقتصادي وإجراء الإصلاحات اللّازمة في مختلف الهيكليّات والقطاعات، وبتفشّي الفساد، وسيطرة شريعة الغاب والنفوذ".
وأكد أن "تربية الأجيال هي المخرج لكلّ هذه الحالات، وتتمّ بواسطة المدرسة الكاثوليكيّة بشكل خاص. ما يقتضي تحرير هذه المدرسة لكي تظلّ أبوابها مفتوحة بوجه الأهالي الذين يرغبون اختيارها لأولادهم، وتأمين التربية العلميّة الرفيعة والتربية على الأنسنة والترابط والتضامن والمواطنة، لأكبر عدد ممكن من شعبنا اللّبناني. هذه التربية المتعدّدة الوجوه تتوفّر ليس فقط للتلامذة، بل أيضًا لأهلهم وللمعلّمين والموظّفين".
ورأى الراعي انه "أمام المدرسة تحدّيات كبرى معاكسة: الأوّل، تحدّي فقر معظم العائلات اللّبنانيّة، الذي تسبّبه الأزمة الإقتصاديّة والمعيشيّة المتفاقمة، واتّساع دائرة البطالة، وازدياد عدد العاطلين عن العمل، وغلاء المعيشة. يحمل مسؤوليّة هذا الواقع الأليم المسؤولون السياسيّون الذين يسيئون استعمال السّلطة بجعلها في خدمة مصالحهم وحصصهم ونفوذهم، وبإهمال الشّعب والخير العام اللّذين هما مبرّر وجودهم، الثاني، تحدّي القانون 46/2017 الخاص بسلسلة الرتب والرواتب الذي أوجب على المدارس الخاصّة زيادات باهظة على الرواتب والأجور، تستوجب زيادة الأقساط المدرسيّة. الأمر الذي لا تريده المدرسة لأنّه عبء ثقيل لا يستطيع أهالي التلامذة حمله. فتكون النتيجة الحتميّة قيام أزمة تربويّة وإجتماعيّة خطيرة، إذ تقحم الدولة عددًا من المدارس على الإقفال، وتتسبّب بزجّ معلّمين وموظّفين في عالم البطالة. إنّ من واجب الدولة مساعدة أهالي التلامذة الذين اختاروا المدرسة الخاصّة، من خلال تنفيذ ما اتّفقت عليه المؤسّسات التربويّة الخاصّة في اجتماع بكركي كحلّ مشترك عادل، وهو أنّ المدرسة تلتزم بتطبيق الملحق 17، والدولة دفع الدرجات الاستثنائيّة الستّ".
وأشار الى أن التحديث الثالث هو "حماية المدرسة الكاثوليكيّة من تسرّب ايديولوجيّات وتيّارات معادية للمواطنة والديمقراطيّة التعدّديّة، ومن تأثير الأحزاب السياسيّة بإدراج أفكار أو إدخال انتماءات حزبية مذهبيّة على حساب المواطنة".