بأسلوبٍ متهكّمٍ مرير، تروي هدى بركات في روايتها «حارث المياه» قصة رجلٍ معتوه، سلبت الحرب إرادته وعزيمته وأفكاره وبيته وانتماءه، فغدا متشرّداً يقتات ممّا تجود عليه الطبيعة، ويتبارى مع الكلاب الضالّة في تأمين لقمة عيشه، ويتآمر مع الحفر العميقة ليتوارى عن الخطر، حيث الجثث الراقدة من جرّاء القنص والحرب في وسط البلد في بيروت، والتي لم تجد من يدفنها بعد.
 

بطل الرواية يدعى نقولا، كان في الأساس ابناً لتاجر أقمشة في سوق سرسق القديم، يتعلّم من أبيه مهنة التجارة دون أن يصيب شيئاً من العلم التي تاقت لتحصيله له والدته من دون جدوى، بعد أن فقدت الأمل في أن تجعله مطرباً كما كانت تحلم، لأنّ صوتها لم يكن رخيماً كما كانت تخاله. وهي المدلّلة الآمرة الناهية في البيت، تتبختر وترفل بالغنج والتيه والكبرياء مع والده الذي يعشقها حدّ العبادة.

عشق الخادمة

وعندما يرحل والده، يضطر أن يعيش مع أمه التي فقدت عقلها بسبب العمر، ويعشق الخادمة الكردية «شمسه» التي تعمل عندهم، ويحكي لها حكاية الأقمشة على اختلافها وأنواعها، كأنه يتدرّج معها في ألوان الحياة وصناعتها وحبكتها وصولاً إلى الحرب الضارية التي فتكت بالبشر والحجر.


وعندما تموت والدته ويتورّط حتى النخاع في حبّ خادمته، تهجره هي الأخرى، وهو يستحضر كل تلك الذكريات مشرّداً وحيداً بعد أن يحتلّ منزله الغرباء عندما يقيم مع صديقه في عزّ الأحداث الأمنية وضراوتها ويعود إلى بيته فيجده مخلوعاً ويسكنه قومٌ آخرون. فيذهب إلى محلّه ليستفقده ليجده مدمّراً ما عدا الطابق السفلي الذي يحتوي على الأقمشة النادرة الغالية من الكتّان وصولاً إلى الحرير... ذلك القماش الذي أغرى شمسه بقصصه الغريبة والتاريخية النادرة، وكأنه يبدأ عكسيّاً من تاريخ الحرب المرير إلى العز الوثير الذي شهده لبنان من قبل.

ضاعت قيمته

يقرّر أن يعيش في محلّه مثل المتشرّدين، يستحمّ في البركة القابعة قرب مجلس النواب في وسط البلد، ويقطف الأعشاب ويجمعها ليعالج بها أمراضه المختلفة، ويقتات من الزواحف وبعض الخضار والفاكهة التي يجدها في الأشجار المنسية كما نسي الإنسان وضاعت قيمته في نعيم البؤس المضني.


الذكريات والكلاب الشادرة ورصاص القناص وذكريات شمسة وتاريخ الأقمشة، تتداخل كلها في سردٍ متشابك المدى، يظهر بأنّ الروائية تلعب بأوتار السيكولوجيا أكثر من تركيزها على بشاعة الحرب الشنيعة، فالضحية الحقيقية كانت الإنسانية والتدمير الفعلي كان للكيان البشري. الخيوط وألوان الأقمشة هي البطل الحقيقي لحكاية بركات، فالتخبط العشوائي لأفكار البطل ترصدها دائماً تلك الأفكار المحصورة بأنواع الأقمشة، بدلالة ألوانها، بتجزئة تاريخها وتهيئته لاستحضار شخصيات تاريخية تشبه الإنسان الحالي الذي يقرع رأسه ويهشّم بالعصي والتعتيم الضبابي لروحه الفائضة بالأحاسيس البشرية.

غدا كالحيوان

يعلن البطل موته في نهاية الرواية، ولكنه نفسه يجهل الطريقة التي يموت فيها، فيتساءل إن كانت رصاصة قناص قد أردته قتيلاً، أم جوع الكلاب الشاردة، أم قبس ذكرياته المؤلمة. هو يعلن الحداد على ذاته وهو حيّ، فقد فَقَدَ عقله وفقد إنسانيته، وأخذ يعدو مع الكلاب الشاردة ويقلّدها في أصواتها وحركاتها، غدا كالحيوان الذي قضى عليه مصير وطنه، وأرهقته الذكريات الخالية وبات شبه ميت..وشبه إنسان..


التلاحم الميلودرامي يعطي نفحة فلسفية عميقة للرواية، وأسلوب الكاتبة يفيض بالتأمل والتعمق الانتقالي لمراحل التباين للأحداث في حياة الإنسان، ولكن الوصف يتطاير شرراً من محجري الحبكة وهي تستحضر الأقمشة وتمزجها بالحضارات والتاريخ وتقلّب وجوهها وتحيك مهارة معانيها..وهنا يكمن الملل الذي جعل التشويق التلقائي يخبو لمسافة ضوء لدى القارئ، ثم يتجدّد ثانية بانتقالها إلى المرحلة الواقعية في تشرّد البطل وحياته الذليلة الساكنة الحانقة.
هدى بركات من رواة مأساة الحرب اللبنانية الدامسة الدامية، التي أودت بعقول الكثيرين مما آمنوا بالوطن فخذلهم شوقهم.