يطيب للبعض وصف إدارة دونالد ترامب بالانعزاليّة. الوصف صحيح تؤكّده القائمة الطويلة من الروابط والاتفاقيّات العابرة للحدود التي انسحبت منها تلك الإدارة، أو هدّدت بالانسحاب. كذلك تؤكّده السياسة المعلنة حول عدم التدخّل في الصراعات، باستثناء ما يتّصل منها مباشرة بأمن الولايات المتّحدة الأميركيّة. الحرب على «داعش» في العراق وسوريّة مَثَل معبّر.
لقد فصلت ساعات فحسب بين قرارين «انعزاليّين»: واحد يقضي بالتوقّف عن تقديم دعم بقيمة 300 مليون دولار عن الدولة والجيش الباكستانيّين. هذا القرار يأتي تطبيقاً لما أعلنته الإدارة في كانون الثاني (يناير) الماضي من وقف دفع أيّ معونة أمنيّة لباكستان. القرار الثاني، الأفدح، هو وقف تقديم المعونات لمنظّمة الـ «أونروا» (غوث اللاجئين الفلسطينيّين) التابعة للأمم المتّحدة.
«الانعزال» هذا هو، في الحالتين، تدخّل. حيال باكستان، لوحظ أنّ حجب المعونة جاء عشيّة زيارة وزير الخارجيّة مايك بومبيو إليها، والأهمّ أنّ ذلك يحصل مع انتخاب «الوجه الجديد» عمران خان على رأس حكومة باكستانيّة جديدة. أيضاً: لا يغيب عن البال أن الولايات المتّحدة ستنفق هذا العام 46 بليون دولار في أفغانستان.
حيال اللاجئين الفلسطينيّين، التدخّل أفظع: إنّه يأتي بعد الاعتراف الأميركيّ الشنيع بالقدس عاصمة لإسرائيل، وفي موازاة الترويج لـ «صفقة القرن»، فيما الاستيطان الإسرائيليّ ماضٍ في قضم الأرض الفلسطينيّة. أخطر من ذلك أنّ إراحة إسرائيل من «حقّ العودة» (وهو شعار تنعدم أصلاً شروط تنفيذه) ستخلق مشكلة أكبر مثلثّة الأضلاع، معطوفة على المشكلة الإنسانيّة للفلسطينيّين التي ستزداد تفاقماً:
فأوّلاً، ستتعرّض الأنسجة الوطنيّة والأهليّة في مجتمعات اللجوء الفلسطينيّ، وهي مضطربة أصلاً، إلى مزيد من الاضطراب. أصوات أكثر حدّة ولؤماً وعنصريّة سترتفع، في هذه المجتمعات، ضدّ المدنيّين الفلسطينيّين. كذبة «لا للتوطين، نعم للعودة» ستكسب المزيد من الألسنة الملتوية المعبّرة عن نفوس ملتوية.
وثانياً، وهذا سرّ الموقف الألمانيّ والأوروبيّ المعترض على خطوة ترامب، سوف يدقّ أبواب أوروبا مزيد من اليائسين والمفقرين الذين هم بلا مكان ولا جنسيّة.
وثالثاً، وأخيراً، سيزداد انتفاخاً البطن الراديكاليّ والعدميّ في منطقتنا. إنّه لن يغذّي العداء للغرب فحسب، بل يغذّي أيضاً العداء للحياة نفسها. يحصل هذا فيما لم يُقفل بعد ملفّ «داعش» وإخوانه.
سياسة ترامب هذه التي تجمع بين الانعزال والتدخّل، لا ترى البدائل إلا نقائض، مستخدمة قدراتها الماليّة وغير الماليّة لفرض مفهوم بدائيّ جدّاً عن العالم وعن السياسة وعن الآخر. وفقاً لهذا التصوّر، ليس هناك أيّ مكان للديبلوماسيّة أو التدرّج في التأثير أو الرهان على غِنى ما قد يلده الواقع ومعطياته. فإمّا أن يكون الطرف المعنيّ بالأمر عبداً، لا يجيد إلا الطاعة، أو أن يُهدَّد بـ «حلّ نهائيّ» لقضيّته، على نحو ما هو مطروح على الفلسطينيّين اليوم. إنّ المشكلات، والحال هذه، لا «تُعالَج» إلا بتحويلها إلى مشكلات أكبر، إلى مشكلات يتراءى للسيّد ترامب أنّ حرائقها لن تندلع إلا في «الخارج». في يومنا هذا، يُعدّ ذلك وهماً محضاً. فالانعزال التدخّليّ لن تعصمه انعزاليّته عن تدخّل الآخرين فيه.