مسرحية مربَكة، بعض التدقيق في أحداثها يبيّن افتقادها «البطل» الذي يأخذ بها الى الجدّية؛ فجأة تتحرك عجلة التأليف، ثمّ تتوقف، ثمّ تتحرّك مجدّداً، ثمّ تتوقف، وتستريح ثمّ تعود وتتحرّك، فما تلبث أن تتوقف من جديد الى حدّ لا تُعرف لها بداية، ولا تُعرف لها نهاية، وعلى هذا المنوال يستمرّ عرض هذه المسرحية، مطيحة حتى الآن بـ15 أسبوعاً من عمر البلد. وفمها مفتوح لابتلاع أسابيع إضافية تنتظر على حافة الزمن.
لا يجادلَنّ اثنان في أنّ صورة التأليف ثابتة عند هذا الإرباك؛ وعلى وقع هذا الإرباك يأتي التحرّك المتجدّد للرئيس المكلّف سعد الحريري، الذي يسعى من خلاله الى إحداث خرق ما في الحائط الذي تفشل مهمته حتى الآن، ولكن لا يبدو أنّ مهمة الحريري سهلة، فبعض التدقيق في صورة التأليف يبيّن أنّ الحائط أقوى من أيّ وقت مضى، ومهمّته تتجاذبها عناصر تعطيلية لم يُحسم أيّ منها حتى الآن؛ بعضها مرتبط بعوامل داخلية تصارع على الوزارات تحت عنوان صار مستهلكاً هو «عنوان الأحجام»، ويشكّل بعض منها ساتراً لحجب ما يُحكى عن رهان على متغيّرات إقليمية أو دولية، بالتوازي مع استحضار الخارج واتّهامه بمنع تشكيل السلطة التنفيذية في لبنان.
الحريري في حراكه المتجدّد ما زال يقف أمام الحائط، كأنّه في أول الطريق، يحاول تلمّس السبيل أو الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها نحو هدفه الصعب، بإخراج حكومته من عنق زجاجة التعقيدات والانقسامات، ولا توحي المؤشرات التي ترافق حراكه هذا بأنّه قد عثر على الثغرة.
ومع ذلك ثمّة من بدأ يتعامل مع الفصل الجديد من حركة الحريري على أساس انّ ثمّة مرحلة جديدة قد بدأت، وانّ جني ثمارها صار وشيكاً. علماً انّ هذا البعض لا يملك دليلاً ولو بسيطاً جدّاً على انّ هذه الثمار قد نضجت وآن قطافها.
وفي المقابل، ثمّة من يتعامل مع هذا الحراك، بوصفه فرصة أخيرة وثمينة قد لا تتكرر، لإيقاف مسلسل المبالغات والشروط والطروحات، ولإنهاء ما سمّاها الرئيس نبيه بري «المهزلة» التي حوّلت التأليف الى ما يشبه حفلة «أفواه وأرانب» يتسابق كلّ من فيها على أكل الصحن الحكومي وحده، ولا يترك شيئاً لغيره».
إذاً يجري الحديث عن فرصة لاستيلاد حكومة قبل نهاية الشهر الجاري، وربما خلال أيام قليلة على حدّ ما يجري ترويجه من داخل مطبخ التأليف. على أن يسبق ذلك موعد حاسم بين «شريكي التأليف»، يُفترض أن يقدّم فيه الحريري مسودة جديدة لحكومته الى رئيس الجمهورية ميشال عون تُراعي كلّ الاعتبارات والتوازنات وترضي كلّ الاطراف، خصوصاً تلك المرشحة للتنعم بالجنّة الحكومية.
ولكن بمعزل عما سيقدمه الحريري، فإنّ الفرصة الاخيرة المحكي عنها، لا توحي وقائع الايام الاخيرة بأنها فرصة محصّنة بتوافق جدي يمكن أن يفضي الى إعلان وشيك للحكومة:
- المناخ الايجابي الذي سعى الرئيس المكلف الى ضخّه في اجواء المشاورات التي اجراها، لا يبدو مكتملاً، او يعبر عن تقدّم جوهري في هذا المسار.
- ليس في يد رئيس المجلس ما يجعله يطمئن الى حدوث ولادة وشيكة للحكومة، ما خلا الرهان على ان يُوفّق الحريري في حركة اتصالاته المتجددة، وتأكيده المتكرر بأنّ «ايلول لازم يكون بالحكومة مبلول»، الّا انّ اللافت كان تعمّده عدم الغرف في «المناخ الايجابي»، بل آثر التموضع في موقع «المتشائل». يبدو بري بتموضعه هذا انّه في نقطة الوسط بين التشاؤم والتفاؤل، ولكن المطلعين على موقفه يستخلصون ان نسبة التشاؤم في توصيف «المتشائل» تبقى أعلى بكثير من نسبة التفاؤل حتى يثبت العكس بخطوات واقعية وملموسة تبشّر بولادة اكيدة للحكومة.
- ما نقله الحريري الى بعض المراجع السياسية بأنّ «الثلث المعطل» تمّ تجاوزه، وان رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» صرفا النظر عن المطالبة بـ11 وزيراً، ووافقا على 10 وزراء، ما زال غامضاً ومحلّ التباس، وحتى الآن لم يصدر ايّ تأكيد من قبل عون او التيار لهذا التراجع، خصوصاً وانهما لم يلمسا ايّ تراجع في المقابل.
- الحديث عن ليونة أبدتها «القوات اللبنانية»، ما زال في اطار النوايا دون ان يطال جوهر عقدة التمثيل القواتي. كما لم يحسم امر المقايضة التي تمّت على هذا الصعيد والتي تقول بتخلي «القوات» عن الحقيبة السيادية تحديداً وعن موقع نائب رئيس الحكومة، مقابل ان تسند إليها 4 «حقائب دسمة خدماتياً». مع الاشارة الى انّ احد المراجع اكد موافقة القوات على 4 حقائب، الّا انّه قال انّ العقدة ما تزال موجودة، ذلك ان مطالبة «القوات» بحقيبة سيادية او بموقع نائب رئيس الحكومة تحقيقها «أهوَن» بكثير من الحقائب الخدماتية التي تريدها «القوات» كتعويض لها.
- تمثيل سنّة المعارضة، ما زال عالقاً، بين منطق الحريري الرافض إخراج التمثيل السنّي في الحكومة من دائرة تيار المستقبل، ومنطق «حزب الله» الذي يصرّ على هذا الامر. مع الاشارة الى انّ رئيس المجلس يشدّ في اتجاه تمثيل هؤلاء ايضاً. ولكن دون ان يعني ذلك فتح معركة مع الحريري تحت هذا العنوان.
- ما حكي في الايام الاخيرة عن إمكانية حلّ للعقدة الدرزية، لم يصل الى مسمع وليد جنبلاط. فالامور هنا عند نقطة الصفر. يتصارع فيها منطق جنبلاط بحصر التمثيل الدرزي في الحكومة بحزبه، ومنطق رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» باستحالة التسليم بما يريده جنبلاط ورهن مصير الحكومة له للتحكم به ميثاقياً. مع ذلك اعاد بري التأكيد في الساعات الماضية على ان العقدة الدرزية ليست مستعصية، ويمكن ايجاد مخرج لها، ولكن الشرط الاساس ان يسبقها حلّ العقدة بين «التيار» و»القوات». كلام بري هذا يستبطن اشارة مباشرة الى انّ عقدة «التيار» و»القوات» لم تجد طريقها الى الحل بعد. الا اذا وُفّق الحريري في ايجاد الحل السحري. وطبعاً قبل تقديم مسودته الى رئيس الجمهورية.
وقبل اللقاء المنتظر بين عون والحريري، ثمّة رسالة سياسية تلقي عليهما مسؤولية التقاط الفرصة وإنجاحها:
- أولاً، بالاقتناع بأنّ التعطيل المتبادل يكسر الجميع وفي مقدمتهم العهد. كما يكسر موقع ومعنويات رئيس الحكومة، وبالتالي صار من الضروري ان يتمّ التوافق على علاج قبل ان تنفذ العلاجات من الصيدليات السياسية.
- ثانياً، بمبادرة الحريري الى حلحلة بعض «البراغي»، وعدم الرضوخ لمحاولات الابتزاز التي تُمارس من هنا وهناك. وخصوصاً من قبل من يصرّون على نفخ أحجامهم للتأثير في بيئتهم وشارعهم.
- ثالثاً، بمبادرة رئيس الجمهورية تسهيل مهمة الرئيس المكلف، وتليين موقف فريقه، ايّ ان ينظر الى التأليف بعين الحكم وليس بعين الطرف، وقبل كل ذلك، وفق ما سمّيت « جوقة الزجل الدستوري» التي يدحرج فيها بعض المستشارين والمستوزرين اجتهادات تقفز فوق النص الدستوري لترضي رغبات بعض المراجع، فيعتقدون انهم يقدمون خدمة جليلة، فيما هم يورّطون هذه المراجع ويسقطونها في الإحراج لا أكثر ولا أقلّ.