قريباً تنتهي مناطق «خفض التصعيد» التي كانت موسكو وأنقرة وطهران، ومعها واشنطن من تحت الطاولة، قد اتفقت عليها مطلع أيار (مايو) عام 2017، مع اقتراب تصفية آخرها في إدلب، بعد أن تمت العودة عن ذلك الاتفاق وتصفية 3 منها تباعاً هي: شمال محافظة حمص، الغوطة الشرقية، بعض المناطق جنوب سورية، أي محافظتا درعا والقنيطرة. أما منطقة إدلب، فكان «خفض التصعيد» فيها يشمل، وفق الخرائط السورية، أقساماً من ريف اللاذقية وحماة وحلب هي التي تستهدفها الحملة العسكرية التي يتهيأ الروس وجيش النظام ومعه الميليشيات الإيرانية لشنها.
على مدى الأشهر الماضية من عام 2018، أسفرت الحملة على المناطق الثلاث السابقة عن مزيد من الدمار والتهجير والمآسي للسوريين، وبدلاً من تطبيق مبدأ «خفض التصعيد» تمت ممارسة «الحسم بالتصعيد» والقصف المجنون، حيث استخدم النظام الغازات السامة والكيماوي، لاسيما في الغوطة الشرقية. وكانت التقارير أفادت باستخدامه أيضاً في ريف حلب.
بات واضحاً أن اختراع «خفض التصعيد» في تلك المناطق، الذي تلازم مع 8 جولات مفاوضات في جنيف بين النظام والمعارضة، كان للتهيئة لاستعادتها الواحدة تلو الأخرى. جرى عزل المناطق بعضها عن بعض وتوزيع إمكانات المعارضة وترحيل المقاتلين (وعائلاتهم من المدنيين) من كل منها إلى التالية، وخصوصاً إدلب بالنسبة إلى «النصرة» (هيئة تحرير الشام). وحين شمل الاتفاق على المناطق الأربع أن تكون مدته في البداية 6 أشهر يتم تجديدها تلقائياً، كان محسوباً أن هذا يعطي حرية توقيت إنهاء الاتفاق وفق عقارب الساعة الروسية. على الأقل هذا ما كشفته العودة المبرمجة إلى التصعيد. كانت اللازمة الروسية السورية الإيرانية بأن هدف العمليات العسكرية «ضرب الإرهاب» جاهزةً في كل هذه المراحل، ووسيلة للفصل بين التنظيمات الإرهابية وبين التشكيلات العسكرية المعتدلة والمدنيين. لم تتح الحملات العسكرية التمييز بينها، طالما كان يجري نقل مقاتلي «النصرة» و «داعش» في كل مرة يتم فيها الحسم في إحدى المناطق، إلى واحدة من مناطق خفض التصعيد المرشحة سلفاً للحسم، وخصوصاً إدلب. كان يمكن الحل السياسي، لو حصل تقدم في مفاوضاته، أن يقود إلى هذا التمييز، فالفصائل العسكرية المعتدلة اصطدمت بالتشكيلات المصنفة إرهابية أصلاً، وكانت مستعدة لمجابهة هذه التشكيلات لو حصل تقدم في مفاوضات الحل السياسي.
لن ينفع الصراخ الدولي المرتفع منذ أسبوعين للتحذير من كارثة إنسانية في إدلب ومحيطها في الحؤول دون العملية العسكرية في إدلب. والأرجح أن التحذير الأميركي من استخدام النظام السلاح الكيماوي سيقف عند حد التحذير. أما الاعتراض التركي على العملية العسكرية بحجة سعي أنقرة إلى تحييد «النصرة»، فإنه يدل على المأزق الذي بلغته الأخيرة، لأن انتهاء العملية العسكرية هذه المرة بترحيل مقاتليها إلى منطقة أخرى ليس متوافراً، إلا إذا كانت تركيا ستضمن نقل مقاتليها إلى الشمال ومناطق «درع الفرات» التي تسيطر هي عليها، ليصبح عناصر «القاعدة» السوريين تحت جناحها بالكامل. والسيناريو نفسه سيتكرر كما حصل في درعا والمنطقة الجنوبية: قصف عنيف وتدمير المستشفيات والبنى التحتية وتهجير ومجازر بحق المدنيين، بحيث يدخل قادة التنظيمات المقاتلة في مفاوضات و «مصالحات» مع قوات النظام لتنضم تركيا إلى الإشراف على كل ذلك هذه المرة، مع الشرطة العسكرية الروسية.
حين أنجز اتفاق «خفض التصعيد» السنة الماضية ارتسمت صورة لتقاسم النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية تبين أن خارطته غير ثابتة. ومع إسقاط هذا الاتفاق بدا أن الأميركيين الذين تعايشوا مع هذا الاتفاق بالتناغم مع العمليات العسكرية للقضاء على «داعش» في العراق وسورية، تاركين لموسكو هندسته، أخذوا يتخلون عن السياسة القائمة على المبدأ القائل إن «الخطة في سورية هي اللاخطة».
تزامن الإعلان الأميركي عن عدم النية في الانسحاب من سورية مع تعيين إدارة دونالد ترامب السفير السابق جيم جيفري ممثلاً خاصاً إلى سورية وإحدى إشارات المرحلة الجديدة للصراع على تقاسم النفوذ في سورية، بدلاً من السياسة الأميركية السابقة التي اعتمدت مبدأ ترك روسيا تغرق في وحولها فقط. لكنها سياسة لا تعني دفع الأمور نحو الحلول في كل الأحوال، فجيفري الذي خبر العراق من خلال خدمته في العراق، واحد من 9 سفراء سابقين، بينهم دنيس روس، وباحثين استراتيجيين أصدروا وثيقة بعنوان «نحو سياسة أميركية جديدة في سورية» لـ «معهد واشنطن للشرق الأدنى»، توصي ببقاء القوات فيها، وحظر الطيران والتنقل إليها على الإيرانيين، ودعم الضربات الإسرائيلية لقواتهم، مع تشديد العقوبات على المصارف التي تسهل حصول النظام السوري على المال.
المرحلة الجديدة ستشهد اشتداد التنافس على السيطرة على مناطق التواجد الإيراني والأميركي.