حضر سعد الحريري في 16 يناير 2014 الجلسة الأولى للمحكمة الدولية بشأن اغتيال والده. ومن على باب تلك المحكمة في لاهاي، أقفل الابن الجدل السياسي بخصوص مقتل الأب، تاركا أمر البتّ في القضية للقضاء الدولي، متعهدا بإخراج الاغتيال من دوائر السجال والمناكفة، وإيداعه في يدّ أصحاب الاختصاص من قضاة ومدعين ومحامين وخبراء القانون. ومذاك ابتعدت يوميات بيروت الصاخبة عن يوميات لاهاي الصامتة، ولم يصدف أن لوّح منبر من منابر “14 آذار” عامة، وتيار المستقبل خاصة، بما يمكن أن تخلص إليه المحكمة، وما يمكن أن تحمله هذه الخلاصات من رياح إلى لبنان.
مقابل ذلك، أيقظ السيد حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، اللبنانيين على وعيد جديد من مغبة “اللعب بالنار” والمراهنة على قرار المحكمة في لاهاي. استفاق البعض متثائبا متسائلا عن هذه النار التي يتحدث عنها الرجل، وعن هذا اللعب الذي لم يلحظوه. وفي ذلك، أن نصرالله “يعلم” عما تحمله تلك المحكمة ما لا يعلموه، وأن ما ستنفخه لاهاي من عواصف قد تكون عاتية لن يقوى الحزب على ردها، وأن رسائله اللبنانية المتوعدة تعكس عجزا فاضحا عن البعث برسائل ما فوق لبنانية رادعة.
قد يكون جمهور حزب الله أكثر المتفاجئين من تهديدات نصرالله. أمر ذلك أتى في خطاب في منطقة البقاع هدفه امتصاص حالة تململ شعبي ضد الثنائية الشيعية التي أهملت المنطقة منذ عقود. استنفر حزب الله جهودا استثنائية أثناء حملة الانتخابات التشريعية الأخيرة من أجل حماية لوائحه البقاعية من أي اختراق. كان أمر هذا الاختراق مرجحا على الرغم من البون الشاسع في مستوى إمكانات الحزب ومستوى منافسيه، واستدعى تدخل نصرالله ووعده بالنزول إلى المدن والقرى بنفسه لحماية “لوائح المقاومة”.
يقرّ نصرالله في ثنايا نصوصه بتراجع مصداقية حزب الله لدى العامة والأنصار والمريدين. وهو وإن يخصّب خطابه بالوعود للبقاعيين، يضيف على الوعود توابل عتيقة علّها تعيد حشر شيعة لبنان داخل عصبية عتيقة ساهم الموقف من إنشاء المحكمة الدولية في تسعيرها. وفيما لم يفهم اللبنانيون نجاعة ضمّ الوعيد إلى الوعود في شأنٍ ما يجري في لاهاي، لم يدرك البقاعيون علاقة القضاء على داعش في ربوعهم، وهي مناسبة الخطاب، بنار قد يلعب بها اللبنانيون في بلادهم، خصوصا أن تلك النار وفق محدثهم وافدة خلال أسابيع من هولندا البعيدة.
يتحدث خبراء القانون عن أن مرافعات لاهاي التي تحاكم أربعة متهمين ينتمون إلى حزب الله ستبدأ في 11 سبتمبر، وأن نقاش كافة المرافعات ما بين ادعاء ودفاع وما يليهما من مذكرات تستغرق عدة أشهر، وأن صدور الأحكام لن يكون قبل مارس المقبل، وأن مرحلة الاستئناف بعد ذلك ستستغرق حوالي العامين، وبالتالي فإن نهائيات أحكام لاهاي لن تصدر قبل عام 2020. فما العجالة في التهويل على اللبنانيين سوء استخدام النار؟
يجوز تفسير الأمر وفق تراكم تاريخي حققه حزب الله منذ نشوئه في بداية ثمانينات القرن الماضي. لا يسجل للحزب أنه اهتم بجوانب التنمية وعمران البلد ورخائه وقيام دولته. وهو في تورطه بعمليات خطف غربيين في لبنان، ثم تفرّغه للمقاومة في فترة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، ثم استخدامه “فائض السلاح” الذي يمتلكه ضد اللبنانيين ثم ضد السوريين لاحقا، لعب دوره المرسوم منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بكل دقة واحتراف.
ويسجل للحزب براعته في احتلال وسط بيروت احتجاجا على قيام المحكمة الدولية، وفي انقلابه في 7 أيار الشهير، دون التطرق إلى سلسلة من الهجمات الأمنية الداخلية التي تتولى المحكمة الدولية الجانب المتعلق منها بسلسلة الاغتيالات التي طالت شخصيات سياسية لبنانية قبل وبعد اغتيال رفيق الحريري. وفي وعيد نصرالله الجديد ما يعيد تصويب البوصلة الحقيقية لحزب الله التي تخيّل البعض مؤخرا أنها ستروح صوب الإنماء ومحاسبة الفاسدين.
يشكو حزب الله هذه الأيام من عيب بنيوي مقلق. يلاحظ زعيم الحزب أن “الانتصار” على التكفيريين الذي تنفخ به بروباغندا “المقاومة”، لا صدى له لدى “جمهور المقاومة” كما لدى الطبقة السياسية المناوئة للحزب في لبنان. يستنتج الحزب بسهولة عجزه عن تطويع النظام السياسي اللبناني باتجاه الرياح التي يُفترض أن تفرضها رياح الانتصار. يدرك الحزب أن الفوز الذي حققه في الانتخابات لا يمكن تصريفه في تركيبة الحكومة المقبلة، حتى لو نفخ الجنرال قاسم سليماني هذا الانتصار، فأهدى الحزب من كيسه 74 مقعدا في البرلمان الجديد. وفيما تتكثّف التقارير عن مباشرة حزب الله انكفاءه من سوريا والمنطقة صوب لبنان، فإن نصرالله يسعى من خلال وعيده إلى إخضاع اللبنانيين بقوة الكلمات بعد أن بات ذلك مستحيلا بلعبة السياسة الداخلية.
سيأتي الاستحقاق الحقيقي للمحكمة الدولية بعد عامين، لكن نصر الله يحتاج إلى تهديد اللبنانيين خلال أسبوعين. لم يستطع تسويق مسألة التطبيع الكامل بين بيروت ودمشق ولم يستطع، من خلال حليفه في قصر بعبدا، فرض نسخة حكومية مواتية. وهو في قراءة المشهدين الإقليمي والدولي المعاديين لطهران، يستشرف ندرة الخيارات البديلة، واندثار وظيفته العابرة للحدود، وتسابق العقوبات العامة المنطلقة ضد طهران مع العقوبات الخاصة بالحزب، والتي تلتزم بها بيروت بشدة قبل أي عاصمة أخرى.
تشبه تهديدات نصرالله، تلك التي أطلقها عشية الدفع بقواته في “7 أيار” 2008. في ذلك الزمان، كان الأمر ردّ فعل على قرارات اتخذتها الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة، أما في هذا الزمان، فإن الحكومة، وهي لتصريف الأعمال، بريئة من أي “نار” ترتكبها المحكمة الدولية، بما لا يبرر تهديد اللبنانيين من اللعب بها “ونقطة على السطر”.
غير أن على لبنان أن يأخذ تهديدات نصرالله على محمل الجد. وعلى المجتمع الدولي أن يأخذ علما أن لبنان واللبنانيين، وفق تهديدات نصرالله، سيدفعون ثمن ما سيصدر عن المحكمة الدولية. فإذا ما كانت حكومة السنيورة عاجزة عن ردّ حمم “7 أيار” عنها، فحري السعي لدى المجتمع الدولي، لا سيما الدول الخمس الكبرى التي لم تستخدم أي منها حق النقض ضد قيام المحكمة، على تحصين لبنان من تهديدات، سبق للبلد أن اختبرها، في حال أتت رياح لاهاي بما لا تشتهي سفن حزب الله.
يقلل نصرالله من شأن المحكمة الدولية التي أقرها القرار 1757 تحت الفصل السابع ويقول “لا تهمنا”. قد لا تكون تهديدات نصرالله إلا مكابرة أبجدية في ظروف إقليمية دولية تطورت سلبا ضد الحزب ورعاته في طهران. وقد لا يكون ارتباك الرجل بين المرونة والتشدد والانفتاح والتطرف في الأسابيع الأخيرة، إلا تعبيرا عن تحرّ مضنٍ عن نقطة توازن مفقودة في الدور والوظيفة التي يحاول الحزب الاهتداء إليهما في هذا العالم الحربائي المتحول.
لكن بغضّ النظر عن حيثيات التهديد وحوافز الوعيد فإن على من كان عايش تجربة الحكومة عام 2008 وأدرك سوء إدارة ملف الصراع حول غزوة “7 أيار”، أن يتّعظ من تلك التجربة ويُحسن بحكمة مواجهة إنذار نصرالله بنضج مختلف عن تسرّع وانسحاب وتقهقر شاب سلوك تلك الحكومة عشية وغداة الغزوة الشهيرة.