في الوقت الذي كان الرئيس المكلف سعد الحريري يعلن إجراءه اتصالاً برئيس الجمهورية ميشال عون للاتفاق على إطلاق جولة مشاورات جديدة، كان يستعد لاستقبال رؤساء الوزراء السابقين الذين حضر منهم نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة، فيما غاب تمام سلام بداعي السفر. اللقاء حصل بغية دعم الحريري في وجه الحملات والضغوط التي يتعرض لها. وهذا التحرّك يشير إلى أن المعلن من المواقف مناقض للمضمر. لا حاجة إلى لقاء مماثل، لو لم يكن الحريري يستشعر الضغط الذي يتعرّض له، ومحاولات الالتفاف الجارية على الدستور وصلاحياته في عملية تشكيل الحكومة.
ما يجري يؤكد أن الرئيس المكلف لا يريد الدخول في أي اشتباك إعلامي أو كلامي مع رئيس الجمهورية والمقربين منه. بل يفضّل الردّ على حملات التهويل بخطوات صامتة ولكن تحمل دلالات كافية. بهذه الخطوات يحفظ الحريري خطّ الرجعة لتجديد التسوية مع عون في لحظة معينة إقليمياً ودولياً، تفرض سحب فتيل التوتر بين طرفيها الرئيسيين.
هي طريقة جديدة يفكّر فيها الحريري بلا شك. يحسن استخدامها حيناً، ويخطئ أحياناً. والمقصود بالخطأ هنا هو ما تنقله مصادر متابعة، عن رد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على الكلام الذي تناول المحكمة الدولية قبل أيام. وتكشف المصادر أن نصرالله أراد الردّ على ما يجرى تداوله في الكواليس، بين الحريري وبعض المقربين منه، وربما أوصلت الرسالة إلى حزب الله، بأن دوائر بيت الوسط تتداول في مسألة المحكمة الدولية التي ستصدر حكماً تارخياً، ما يزيد الضغط على الحزب ويكون قابلاً للاستثمار به في السياسة. وبما أن الكلام وصل إلى حزب الله، اختار نصرالله الردّ عليه على طريقته، بموقفه المعتاد بأن المحكمة لا تعنيه، رافعاً لهجة التحذير بعدم التلاعب بالنار.
القصة هنا، وفق المصادر، هي خطأ الحريري بذكر موضوع المحكمة، خصوصاً أن بعض التسريبات تتحدث عن أربعة أسماء جديدة ستكون مدرجة في مطالعة المحكمة. اسمان لقياديين في حزب الله، واسمان لمسؤولين إيرانيين. بعض الذين يلقون باللوم على الحريري، يعتبرون أنه أخطأ الحسابات مجدداً، خصوصاً أن المحكمة ستكون مرتبطة بحسابات دولية وإقليمية، وحزب الله لن يعترف بها. بالتالي، فإن تلويح الحريري بها يأتي في سياق إيصال رسائل بأنه قد يكون قابلاً للمساومة عليها أو المسامحة بموجبها، بالشروع في إبرام تسوية سياسية جديدة. ولكن ذلك سيخرجه بمظهر المتنازل الذي يريد الحدّ من الخسائر، تماماً كما حصل أيام تسوية السين سين، وقد خرج نصرالله حينها، كاشفاً عن ورقة موقّعة من الحريري، وتنص على استعداده للتخلي عن المحكمة وطي الصفحة. ولو استمر الاتفاق في تلك الفترة، لكن مسار التسوية قد سلك طريقه.
ولكن، بعيداً من هذا الخطأ الاستراتيجي، تعتبر المصادر أن الحريري في العلاقة مع عون يتعاطى ببراغماتية وهدوء، وإن كان مستعجلاً تشكيل الحكومة فهو لا يبدو كذلك، ويظلّ على ثباته، متمسكاً بشروطه وشروط حلفائه. لذلك لجأ إلى الطريقة العملانية في الردّ على المواقف التحذيرية التي وجّهت إليه من القصر الجمهوري، ومنها ضرب مواعيد كالأول من أيلول. وهذا ردّ عليه بأنه يلتزم الدستور الذي وحده يحدد المهل له. وعزز ذلك بلقاء رؤساء الحكومات السابقين، كما ردّ على المطالعة التي أعدها الوزير سليم جريصاتي قائلاً إنه غير ملزم بأي دراسة من هذا النوع.
عملية تقاذف الكرة مستمرة بين بعبدا وبيت الوسط. تراجع عون عن تحذيره واعتبر أنه ينتظر رئيس الحكومة. والحريري أعلن أنه سيطلق جولة جديدة من المشاورات، وسيلتقي فيها القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وبقية الأفرقاء. ولكن المطالب لا تزال على حالها، وبذلك فإن الرجل سيعيد الكرة إلى ملعب رئيس الجمهورية، الذي عليه التدخل مع المحسوبين عليه لخفض سقف مطالبهم.
لا بوادر للحل، وفق مصادر مطّلعة، إلا من خلال مسارين. المسار الأول هو حصول تغيير في المعادلات الإقليمية والدولية يتيح إنجاز التشكيلة الحكومة. أما المسار الثاني فهو تكرار تجربة الحريري في تسويق التسوية مع عون وكيفية تمريرها داخلياً وخارجياً عبر الإيحاء بأنها تأتي بدعم دولي وإقليمي ولا سيما سعودي. وقد سار الجميع، آنذاك، بتلك التسوية، ليتبين فيما بعد أنها مررت تهريباً. وهذه المحاولة كانت مكررة عن أخرى لن تصل إلى غايتها، وهي التفاهم بين الحريري وسليمان فرنجية، حين أوحي أنها تحظى بتوافق دولي وإقليمي، تمثّل في لاتصال الذي أجراه الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند بفرنجية، وقد تبين فيما بعد أن الحريري أحرج هولاند وطلب منه الحديث مع فرنجية عبر هاتفه. وجرى التعاطي مع الاتصال وكأنه ضوء أخضر دولي لإنجاز التسوية. تضرب المصادر هذين المثلين للاستدلال على ما يمكن أن يحصل من حلول لإنجاز التشكيلة الحكومة، والتي ستكون بحاجة إلى نوع من المناورات والمراوغات، للعبور فوق نقاط حساسة، تبدأ بالحصص ولا تنتهي بالعلاقة مع النظام السوري.