يمكن لأيّ من أصحاب المواقف المتصلبة، من الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري الى «التيّار الوطنيّ الحرّ» أو «القوات اللبنانية» أو «الحزب التقدمي الاشتراكي» أو تيار «المردة» و«سنّة 8 آذار» الاحتفاظ بالسقوف العالية الى ما شاء الله. وعلى رغم استمرارهم في تبادل الاتهامات وتحميل بعضهم بعضاً مسؤولية اعاقة ولادة الحكومة العتيدة، فإنّ في استطاعة ايّ منهم ان يحتفظ بما لديه من اوراق قوة متشبّثاً بمطالبه حتى ولو بقيت البلاد ردحاً من الزمن بلا حكومة مكتملة المواصفات.
وتجدر الإشارة الى انّه وفي ظلّ اجواء التشنّج التي تحكم العلاقات بين القيادات اللبنانية باستثناء الثنائي الشيعي، يمكن القول انّ التفاهمات التي صاغها «التيّار الوطنيّ الحرّ» قبل التوافق على انتخاب عون رئيساً للجمهورية، في ظلّ الظروف الإقليمية والدولية والمحلية التي كانت سائدة، حفلت بالكثير من التناقضات العجيبة والغريبة، لئلّا يقال «الهجينة»، والتي كان لا بدّ من أن تصل الى زمن ما، كالذي نعيشه اليوم، لتتفجر في وجه العهد.
وعند الدخول في تفاصيل تلك المرحلة، وما جاءت به هذه التفاهمات وأوراق العمل من بنود تمّ التفاهم عليها، وما حفلت به من تعهدات قطعها «التيّار الوطنيّ الحرّ» على نفسه كسباً للسباق الى رئاسة الجمهورية. لا ينكر كثيرون انّ التعقيدات التي وصلت البلاد اليها يمكن اعتبارها طبيعية ومنطقية جداً. وعلى الرغم من أنّ قلّة توقّعت هذا الأمر، فقد كان واضحاً لديها انّ مسار الأمور سيقود حتماً الى ما يعانيه العهد اليوم، لو لم يصدقوا انّ التفاهمات الدولية والإقليمية التي رعت تلك المرحلة كانت ثابتة لا تتزحزح.
فأصحاب التواقيع على اوراق التفاهم أقدموا على خطواتهم بخلفية انّ لكلّ منهم «غاية في نفس يعقوب» لا تلتقي مع الطرف الآخر. وأقلّ ما يقال فيها انّها كانت متناقضة الى الحدود القصوى وسط الرهان على الاستقرار الإقليمي والدولي الذي لم يدم طويلاً وهو ما أدّى الى تفجّر عدد من هذه الأوراق وسقوطها كحال «تفاهم معراب»، أو انّها أصيبت بالوهن او اهتزّت بقوة كحال «تفاهم بيت الوسط»، عدا عن التفاهمات الأُخرى التي سقطت قبل جلسة انتخاب الرئيس كحال التفاهم بين «التيّار الوطنيّ الحرّ « وتيار «المردة».
وفي ضوء كل هذه المعطيات طرحت مجموعة من الأسئلة «البريئة» التي ليس صعباً العثور على أجوبة عليها ومنها:
- هل كان يُعقل القول انّ في إمكان العهد الاحتفاظ بمروحة التفاهمات التي عقدها قبل «التسوية الانتخابية» يميناً ويساراً وتنفيذ ما تعهّد به كاملاً؟
- هل كان ممكناً نفاذ «تفاهم معراب» بما نصّ عليه من «نديّة» في العلاقة بين معراب والرابية التي أقفلت ابوابها بعد انتقال مرجعيتها الى قصر بعبدا؟
- هل في الإمكان تنفيذ ما جاء به تفاهم «بيت الوسط» من «عقد» يشبه «الزواج الماروني» بين رأسي التيارين الأزرق والبرتقالي طوال سنوات العهد الستّ من دون ان يهتزّ نتيجة «فوالق زلزالية» اقليمية ودولية كان يمكن ان تتحرك في ايّ لحظة.
- هل هناك من يرفع المسؤولية عمّن ساهم وأعطى 4 أو 5 قياديين حقّ «الفيتو» ليديروا البلد بمن فيهم من «أعدقاء» في ظلّ التمسّك بـ «الديموقراطية التوافقية» وحكومة تسمى «حكومة الوحدة الوطنية»؟
- هل كان هناك من يتوقع الّا تنتهي التفاهمات المرحلية التي صيغت في «ليلة سحرية» جمعت في لحظة ما، قادة الرياض خصوصاً والخليج عموماً من جهة، وطهران ودمشق من جهة أخرى وما بينهما باريس وواشنطن وموسكو وغيرها من العواصم المؤثرة في أحداث المنطقة ولبنان على رعاية حلّ ينهي الشغور الرئاسي في لبنان؟
على هذه الخلفيات يمكن النظر الى ما يعانيه اليوم الرئيس المكلف تشكيل الحكومة العتيدة ومعه رئيس المجلس النيابي الذي «فرغ كمّه» من «مجموعة الأرانب» التي كان يُخرجها في اللحظات الحرجة، وحالهما هي كحال رئيس الجمهورية الذي يتفرج على ما يصيب العهد لحظة «ولادة حكومته الأولى» التي انتظرها بفارغ الصبر بعد الانتخابات النيابية، من دون ان يمتلك مخرجاً او حلاً قابلاً للتنفيذ بمعاييره الدستورية والسياسية.
وبناء على ما تقدّم، ثمّة من يقول انّه بات على الجميع التراجع عن لغة الاتّهام المتبادل طالما انّهم متورطون في تفاهمات غير قابلة للاستمرار طوال عهد كامل. وكذلك عليهم، في ظلّ هذه المرحلة التي تشهد المنطقة فيها تبدّلات استراتيجية عميقة قد تكون دراماتيكية قريباً، التراجع خطوات الى الوراء، فإمّا ترميم التفاهمات السابقة والقبول بما كتبته أيديهم عند توقيعها، او نسج تفاهمات اخرى تُخرج الأزمة من عنق الزجاجة قبل فوات الأوان.
فهل هناك من يجرؤ أولاً على خطوة من هذا النوع؟ ومن سيكون بطل المرحلة المقبلة؟ وهل هو موجود ولم يشعر بوجوده أحد حتى الآن؟ ومن سيسبق الى تسمية المعرقلين؟ وهل تصدر اللائحة بهم من «قصر بعبدا» أم من «بيت الوسط» بعدما هدّد هذان المقرّان بالخطوة عينها طالما انّ البيوتات الأخرى قد قالت كلمتها صراحة؟