تتخطى أزمة قطاع البناء بوتيرة متدحرجة النطاق الضيق، والمحدد بضمور عرضي للطلب مقابل فوائض المعروض، لتضرب في عمق وظائف العمالة البشرية ومداخيلها من تجار ومزودين ومكاتب هندسية ومحترفين واختصاصيين وعمال ووسطاء، وتتمدد بقوة إلى المستلزمات الخاصة بالبناء وإتمامه من أدوات صحية وكهربائية وبلاط ودهانات وألمونيوم وحديد صناعي وأخشاب وسواها، والمقدرة بنحو 40 عنصرا أساسيا ومثلها عدد من العناصر المكملة، بدءا من المكونات الأساسية، ووصولا إلى مفتاح الباب الرئيسي للشقة.
وإذا كان إيقاف القروض السكنية المدعومة من قبل مصرف لبنان المركزي، بمنزلة القشة التي أثقلت حمولة القطاع فكبحت انفلاشه، فهي كشفت، في الوقت عينه، المحتوى الفراغي للفقاعة العقارية التي قادت أسعار الشقق السكنية والتجارية في السنوات الماضية إلى ارتفاعات قياسية، بحيث راوح سعر المتر المربع في نطاق العاصمة بين 2500 و5000 دولار، وتجاوز 10 آلاف دولار في الأحياء الراقية ووسط بيروت، أي بما يفوق بأضعاف متوسطات المداخيل للعاملين في القطاعين الحكومي والخاص، حيث يبلغ الحد الأدنى للأجور نحو 600 دولار. ولم تنفع فيه الزيادات الكبيرة التي نالها موظفو القطاع العام، كون الزيادة مستجدة ولا تكافئ الأقساط المرتفعة، وأيضا يشكل موظفو القطاع نحو 15 في المائة فقط من إجمالي القوى العاملة.
وتنبه تقييمات مصرفية ومالية إلى مسؤوليات وازنة لأهل القطاع العقاري، من مطورين وتجار بناء، في تفاقم أزمته. فقد استفاد القطاع من ضخ رزم التمويل من قبل البنك المركزي، ولم يتحسب أغلبهم إلى تبدل الأولويات، بسبب تواصل الركود الاقتصادي وتنامي الصعوبات التي تجبه القطاع الخاص وتراجع الرساميل الوافدة إلى مستويات متدنية. ما فرض توجيه الوفورات المالية (المجتذبة من المصارف والمكلفة بفوائدها) لصالح دعم الاستقرار النقدي، بينما تعجز الدولة عن تخصيص أي دعم بسبب العجز الكبير في الموازنة العامة واستهلاك سلسلة الرواتب الجديدة لمجمل الإيرادات الجديدة. فضلا عن ما أنتجه هذا الواقع من تبدل في وجهة الاستثمار للادخارات نحو الفوائد المرتفعة التي اضطر البنك المركزي لاعتمادها بهدف تقوية احتياطه من العملات الصعبة.
يشير رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، في حديث له، إلى أن القطاع شهد قفزات كبيرة في الأسعار خلال السنوات السابقة، وكان هناك حديث عن سوق حيوي ومهم، ونتج عن ذلك تحقيق أرباح طائلة، في حين أنه وعندما شهد القطاع شيئا من الركود في الأسعار، بدا وكأن المطورين لا يرغبون بالبيع بأسعار أقل من السابق، لقناعة منهم بأنهم لا يريدون البيع بخسارة، أو لعدم قدرتهم من وجهة نظرهم على تحمل قيم هذه الخسارة، في حين أن المستهلك لا يرغب في الشراء بالأسعار وفق المستويات السابقة، أو على الأقل يترقب مزيدا من الانخفاض في الأسعار، خالصاً إلى القول بأنه لا بد للمطور أن يتفاعل مع ارتفاع الأسعار كما مع هبوطها.
ويوضح: «لو دخل المطورون، بمشاريع جديدة في الوقت الحالي، لكانت تكلفة التطوير أقل من السابق، لا سيما أن الارتفاع المسجل في أسعار العقار، نتج عن ارتفاع أسعار العقارات الفضاء، ولم ينتج عن ارتفاع حقيقي في تكلفة التطوير». وأمام هذا الواقع، يرى حمود بأنه على المطورين إعداد الدراسات، التي تحفظ حيوية القطاع وتضمن استمراريتهم فيه، لا سيما أن الشقق غير المبيعة ترتب تكلفة على المطور نفسه من بينها تكلفة الفوائد، استهلاك البناء، التي تقدر سنوياً بنحو 20 في المائة، وذلك بالإضافة إلى ضريبة الأملاك المبنية وسواها.
على العموم، فإن الصورة الواقعية للقطاع، تطمئن نسبيا بإمكانية تحييده مؤقتا عن أي تداعيات دراماتيكية فورية، لا سيما أن حجم المديونية المرتبة على القطاع، أقل بكثير من قيمة العقارات نفسها، كما أن بعضاً من هذه الديون تحولت من المطور إلى المستهلك النهائي.
ويقدر أن قيمة القروض الممنوحة بين قروض شخصية وقروض مؤسسة الإسكان بما يتراوح بين 9 و10 مليارات دولار. لكن مؤشرات القطاع بدأت تظهر خطوطا أقرب إلى الحمراء في ظلّ تنامي انحسار الطلب، مقابل خفوضات خجولة في بعض العروض تراوح بين 20 و30 في المائة. بينما تنتظر السوق تراجعات تقارب 40 إلى 50 في المائة.
ويُظهر أداء القطاع العقاري في النصف الأول من السنة الحالية تباطؤا صريحا في الحركة السوقية. فعدد المبيعات العقارية انخفض بنسبة 18.2 في المائة على أساس سنوي. مترافقا مع انخفاض قيمة المبيعات العقارية بنسبة 14 في المائة. وتراجعت قيمة الرسوم العقارية المستوفاة بنسبة 15.7 في المائة لتبلغ 202.8 مليون دولار. كذلك أظهرت إحصاءات نقابتَي المهندسين في بيروت وطرابلس، أن المساحة الإجمالية لرخص البناء الجديدة انخفضت بنسبة 17.8 في المائة على أساس سنوي. وتراجعت كميات الإسمنت المسلمة بنسبة فاقت 4 في المائة.
وكون المصارف تتولى الدور التمويلي المباشر من ميزانياتها وغير المباشر من خلال إدارة المخصصات المدعومة، فقد صارت في مرمى الاتهامات والتشكيك من قبل طالبي القروض أولا، ومن قبل مسؤولين ركبوا موجة المطالبة باستئناف الدعم وبتحميل الممول الجزء الأكبر من المسؤولية، وما لبثت هذه الفورة أن تلاشت بعدما أظهرت الدولة عجزها عن تخصيص مبالغ فورية لغايات الإقراض السكني الميسر، مع وعود برزمة تحفيز جديدة يضخها مصرف لبنان في العام المقبل، وبإمكانية التقدم بمشروع قانون لتخصيص مبالغ سنوية للغرض ذاته في الموازنة العامة، علما بأن الأوضاع المالية السائدة حاليا تبدد هذا النوع من ألآمال المعلقة، وخصوصا في ظل الوضع الحكومي القائم.
ومن مدخل وضع الأمور في نصابها، حرصت جمعية المصارف على تعميم مطالعتها في هذا الشأن. واعتبر رئيس الجمعية الدكتور جوزف طربيه «أن السياسة الإسكانية تندرج مبدئياً ضمن مهام السلطتين التنفيذية والتشريعيّة. غير أن غياب مثل هذه السياسة في لبنان منذ عقود، وضغوط الأوضاع الاجتماعية للشباب اللبناني الراغب في الاستقرار الأُسري، لا سيّما بعد انتهاء الحرب، دفعا السلطة النقدية إلى المبادرة إلى سد الفراغ وإلى اتّخاذ قرارات من شأنها توفير التسليف السكني لشرائح واسعة من اللبنانيين، وتنشيط حركة قطاع العقارات والبناء، وتوجيه الموارد المصرفية في هذا الاتجاه».
ويوضح: «أن التسليف الذي تقدمه المصارف لا ينحصر بالطبع بالتسليف السكني، والتسليف الاجتماعي، بل تلعب المصارف دوراً هاماً في تمويل كل الاقتصاد، ومنه القطاع العقاري، حيث ارتبط الازدهار في لبنان غالباً بازدهار التوظيف العقاري ومشاريع البناء بكل الأحجام والأنواع. وقد أتى التسليف الإسكاني بغالبيته لمصلحة ذوي الدخل المحدود حيث استفاد منه الألوف من أبناء هذه الفئات الاجتماعية، ووصل مجموع المواطنين اللبنانيين الذين استفادوا من هذه القروض السكنية بمختلف صيغها نحو 131 ألف طلب قرض لمواطنين توافرت لهم شروط الاستقرار الاجتماعي والأُسري اللائق، وباتوا من الملاّكين العقاريين».
ومعلوم أن جمعية مصارف لبنان وقّعت طوال العقدين المنصرمين عدداً من بروتوكولات التعاون لدعم تسليف بعض الفئات التي لها دور استراتيجي في خدمة لبنان، وفي مقدمتها الأجهزة القضائية والعسكرية والأمنية، كما مع المؤسّسة العامة للإسكان، في إطار السياسة التحفيزية التي أطلقها المصرف المركزي لدعم القطاع السكني. ثم إن إيجاد آليات جديدة لتفعيل الإقراض السكني هو أولاً رهن السياسة الإسكانية التي من المرتقب أن تضعها الحكومة المقبلة، والمصارف على أتمّ الاستعداد، كعادتها، لتأدية دور ناشط وفعّال من أجل إنجاح هذه السياسة.
وقد تُرجمت هذه السياسة بصيغ متعدّدة ومتنوعة من القروض المصرفية المدعومة، علما بأنه يمكن تصنيف القروض المدعومة عموماً بثلاث فئات هي: الأولى هي القروض المدعومة الفوائد، إلى القطاعات المنتجة والتي بلغت قيمتها منذ العام 1997 ما يزيد عن 7.3 مليار دولار حتى نهاية العام 2017 واستفادت منها آلاف المؤسسات اللبنانية، وتوزّعت بوجه خاص على قطاع الصناعة بنسبة 59 في المائة والسياحة بنسبة 30 في المائة والقطاع الزراعي بنسبة 11 في المائة، وهي تشمل القروض المدعومة الفوائد وكذلك تلك الحائزة على ضمانة شركة «كفالات»، ويستفيد بعضها من تخفيضات في مجال الاحتياطي الإلزامي.
وخلافاً لما يشاع فإن قروض الدعم للقطاعات المنتجة أُقِرَّتْ بناءً على قانون الموازنة العامة في 1997 أوكل أمر وضعها موضع التنفيذ للبنك المركزي الذي أصدر في حينه قراراً تنظيمياً تحت الرقم 6549 تاريخ 10 أبريل (نيسان) 1997 يحدد شروط الدعم. وللتذكير أيضاً فإن الدعم يطاول معدَّل الفائدة وطبعاً ليس مبلغ القرض الذي يبقى كلية على مسؤولية المصرف المقرض وضمن مخاطره.
الثانية هي القروض غير المدعومة الفوائد والتي تستفيد من تخفيض إمّا من صلب الاحتياطي الإلزامي أو من الالتزامات الخاضعة للاحتياطي الإلزامي، وقاربت قيمتها 7.9 مليار دولار. لكنّ العمل بهذه الآلية توقّف في أكتوبر (تشرين الأول) 2017 بموجب التعميم الوسيط رقم 475 الصادر عن مصرف لبنان.
والثالثة هي القروض غير المدعومة الفوائد، والتي لا تستفيد من تخفيضات في مجال الاحتياطي الإلزامي، وهي التي تُعرف بالرزم التحفيزية التي أطلقها مصرف لبنان في العام 2013. وقد بلغت قيمة هذه القروض حتى نهاية العام 2017 نحو 5.2 مليارات دولار. مع الإشارة إلى تغيّر آلية الحوافز التي يوفّرها مصرف لبنان للمصارف بحيث أصبحت تقضي بأن يدعم مصرف لبنان الفوائد وأن تمنح المصارف القروض من مواردها الخاصة، وذلك منذ أوائل العام 2018.
ومن المقدّر أن تكون القروض السكنية المدعومة وفق الصيغتين الثانية والثالثة، سواء من خلال الاحتياطي الإلزامي أو من خلال الرزم التحفيزية، قد ناهزت 9.5 مليارات دولار (أي نحو 75 في المائة من القروض السكنية الإجمالية) في نهاية العام الفائت.