طلب أحمد من والدته أن تُعدّ له الطعام. وأثناء وجودها في المطبخ، سمعت صوتإطلاق نار. هرعت إلى غرفته لتجده ممدداً على الأرض.. لقد أطلق النار على رأسه...انتحر. وقعت هذه الحادثة في إحدى قرى الجنوب.
تتدلّى سيدة أثيوبية من شرفة أحد المنازل في منطقة الحمرا. فجأة تُطلُّ سيدةلبنانية من طبقة أعلى لترى المشهد وتصرخ. في المبنى المواجه سيدة أثيوبيةتراقب ما يجري بقلق. تمرّ لحظات قبل أن ترمي الخادمة بنفسها من الطبقةالسادسة.
قبل أسابيع في زحلة، قتل داني زوجته ريتا وانتحر. زرع رصاصة في رأسها ثمأطلق رصاصة على رأسه من دون أن تُعرف الأسباب.
هذه الحالات ليست وحيدة على الأراضي اللبنانية التي تشهد ارتفاعاً ملحوظاً فيعدد المنتحرين ومحاولي الانتحار المسجّلين لدى المديرية العامة لقوى الأمنالداخلي. ففي العام الماضي، أحصت تقارير قوى الأمن الداخلي 143 حالة انتحار.أما العام الحالي، فقد بلغت الحصيلة 100 حالة انتحار حتى شهر ايار. هذا اذا لمتُذكر محاولات الانتحار التي تحصي قوى الامن منها حالة كل ست ساعات. أماأشكالها فتتعدد من إطلاق نار وشنق وتناول مواد سامة ورمي النفس منطبقات عالية. ناهيك عن أن أحداث إطلاق النار والطعن بالسكاكين باتت جزءاأساسيا من يومياتنا، وجرائم القتل العديدة التي تحصل لأسباب تافهة. وباتتوسائل الاعلام ورسائل الاخبار العاجلة تزخر بأخبار العنف
لماذا؟ ما هي الأسباب؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه قدر الإمكان في هذاالتحقيق. رغم أن لا أرقام أو جهات مختصة أجرت مسحاً إحصائياً ودقيقاً يُحدداسباب هذه الحوادث الأمنية في لبنان.
من المعروف أن الإنسان بمجرد أن يجد نفسه خارجاً عن محيطه الإجتماعي، سواءبالاستقلال المبالغ به عنه، أو شعوره بالاغتراب داخل وسطه الإجتماعي، فإن هذايعد واحداً من أسباب الانتحار والعنف.
عالم الاجتماع الفرنسي الراحل إميل دوركهايم، له دراسة قيّمة باتت مرجعاًللكثيرين للاطلاع على أنواع الانتحار وأشكاله، وكذلك مقاربة الانتحار بوصفه ظاهرةإجتماعية.
ومن المؤكد أن المجتمع اللبناني لا يشذّ عن هذه القاعدة. فالانتحار والعنفالمتزايد ظاهرة إجتماعية يجب أن تدرس كل ما يرتبط بها من جوانب تعطينا صورةشبه واضحة عن المجتمع اللبناني. ويبدو أن الدارس سيجد صلة وثيقة بين الفسادالسياسي والإرهاق الإقتصادي الذي يتعاظم نتيجة الفساد، فضلاً عن غياب أينافذة أمل.
كأن لبنان مكان موصد الأبواب يشعر فيه اللبنانيون أنهم ينتظرون موتهم ... لكنببطء وبعذاب كبير.
يمكن القول إن الإرهاق الإقتصادي الذي تعاني منه العائلات اللبنانية، وارتفاعمستوى البطالة، يدفعان الأفراد إلى كبت الكثير من مشاعر الغضب والحقدوالكراهية نتيجة انسداد الافق.
ولذلك فإن جزءاً لا بأس به من اللبنانيين، باتوا يمارسون العنف الذي قد يصل إلىحد القتل على الطرقات ولأتفه الاسباب، مثل أفضلية مرور أو إشكال.
بالاضافة الى ما سبق، بات يلجأ البعض إلى تعاطي المخدرات والأدوية المهدئةللإنفصال عن المحيط والتمتع بقدر من اللامبالاة تجاه ما يقاسيه.
أما من يجد نفسه غير قادر على التأقلم مع كمّ الضغوط الاقتصادية والتعنيفالمعنوي والجسدي أحياناً الذي يتعرض له، وفي ظل غياب أي أمل بغد أفضل، يجدأن لا خلاص سوى بالموت.
وبحسب الطبيب النفسي أحمد عياش فإن أي سبب كان بإمكان ان يكون شرارةاشتعال جرمية، لذلك تبدو الأحداث تافهة حقاً، إلا ان الامور تقاس من منطلقاتأخرى وأهمّها الحالة العصبية-النفسية لمرتكب الجرم بالإضافة إلى شروط مسرحالجريمة بما فيها عوامل تأثير المجتمع-الدولة-القانون-الاقتصاد-الوضع المالي.
ولذلك تكون الجريمة أسرع وأسهل عند الأشخاص الانفعاليين، الموتورين،العُصابيين، والعدوانيين، المتعاطين لمواد ذي تأثيرات على الجهاز العصبي منأدوية قانونية أو مواد غير قانونية، أصحاب الشخصيات الذهانية المتخفية بأقنعةوسلوكيات دينية-عقائدية-برمجة فكرية مشبوهة.
ويضيف عياش أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا هاما في نشر الأخبارصورة وصوتا وتعليقا على الاحداث في اللحظة المواكبة للحدث، مما أعطىللأفعال الجرمية تأثيرات أقوى على مشاعر الناس من خبر كانوا يقرأونه في جريدةأو يسمعونه في نشرة الأخبار.
ولان اللبناني فقد الثقة بقياداته التي من واجبها تأمين الاستقرار الامني قبلالاقتصادي-الاجتماعي، اصبح صاحب شخصية مستنفرة دائما، استنفذ فيها كلدفاعاته الواعية وغير الواعية لمواجهة اقداره، آخذاً بعين الاعتبار ان منافذ تنفيسالاحتقانات الانفعالية المتراكمة يوميا شبه معدومة: فالشواطىء مصادرةوالمسارح مفقودة والمنتزهات اكوام نفايات والانهار مجارير تصب في البيوت،والأنفس مقهورة؛ فماذا يبقى غير الدواء المهدىء لمنع فورات الجنون ورغباتالقتل والانتقام من الآخر قبل الذات والتوق للنوم من دون الصحو في الصباح؟