حظِيَ السيناتور عن أريزونا والمرشح الرئاسي السابق والقطب في الحزب الجمهوري جون ماكين بهالة من "الاحترامية" حوله، في الداخل الاميركي، على امتداد حياته السياسية، خاصة وأن تجربته السياسية تستند الى تجربته العسكرية في حرب فيتنام، وكأسير في هذه الحرب التي قادتها بلاده ضد حق الفييتناميين في تقرير المصير والتوحد القومي. لم يكن متاحاً له مع ذلك ان يصنع من هذه الاحترامية "كاريزما زعامية" صاعدة تمكّنه من الفوز بترشيح حزبه للرئاسة عام 2000، كما لم يمكنه عند نيل هذا الترشيح الفوز في السباق الرئاسي عام 2008 ضد باراك اوباما.
لا يمكن تقييم جون ماكين بنظرة واحدة، من الداخل الاميركي ومن الخارج، وبخاصة من شعوب العالم الثالث. فالرجل لم يغادر قط ذهنية الفترة الأخيرة من الحرب الباردة، وظل متمسكاً بالدمج بين تأمين مصالح بلاده وبين برنامج تصدير الديموقراطية عندما يجد فيها امتداداً لهذه المصالح، لكن الرجل طوّر، بالتجربة، في نفس الوقت، وبالتراكم وبالمحصلة الاخيرة، تصوّراً قلقاً على النظام الديموقراطي الليبرالي الاميركي والغربي اذا ما بقيت تعجّ فيه الشعبويات الجامحة، مع أنه، هو نفسه الذي اختار اليمينية الشعبوية سارة بيلين كمرشحة لنيابة الرئيس عام 2008. اختار بيلين، ثم ناهض من لا يختلف عنها ايديولوجياً، دونالد ترامب.
لا يمكن تلخيص كل الحياة السياسية لجون ماكين في مبدأ واحد واعتبار ان كل مراحله ومواقفه كانت تطبيقاً وتطويراً للمبدأ نفسه، لكن الرجل ظل نوستالجيا لمرحلة "دونالد ريغن" في السياستين الداخلية والخارجية، وبقي يمنّي النفس برجعة خط دونالد ريغن، ويحاسب أنداده في الحزب الجمهوري على أساس فشلهم في تمثل الريغنية ومتابعتها. توصيفات عديدة أُعطيت له بعد وفاته. المحافظ الليبرالي، يساري الحزب الجمهوري، المحافظ الرومانسي، المستقل بين الجمهوريين، الديموقراطي بينهم، الباحث دائماً عن التفاهم بين الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة. كل من هذه التوصيفات تلتقط سهماً من سيرته السياسية. الواضح فيها كلها انه جرى تقديمه بالأمس، بشكل عام، على أنه "الأنتي ترامب" بامتياز، وهو كان رمزياً كذلك الى حد بعيد، مثلما ان هذا الرجل لم يستطع ان يفهم أنه، بعد الاحتلال الاميركي للعراق ثم ازمة 2008 المالية لم يعد التدخل العسكري الاميركي حول العالم بنفس السهولة، او متاحاً بنفس الزخم، فيما هو ظل منشداً الى حل الامور بهذا التدخل. بهذا المعنى، اوباما وترامب فهما ما لم يستطع جون ماكين فهمه. لا يلغي هذا ان جون ماكين، في مواقفه ضد التعذيب في السجون الاميركية، وضد الاحتباس الحراري، بخلاف جنوح اغلب اليمين الاميركي للاستهتار بالبيئة، كان يشكل علامة فارقة، اذا ما قورن بسواه من الجمهوريين في الكونغرس. ورغم الاحتفاء الواسع به عند وفاته، والصدى "الانتي ترامبي" الواضح لهذا الاحتفاء، يظهر جيداً انه بوفاة جون ماكين فإن الحالة "العقلانية" ضمن الجمهوريين هي التي تتراجع، نسبة الى الحالات التي على يمين ليس فقط جون ماكين، بل حتى دونالد ترامب.
أيّد جون ماكين احتلال العراق، لكنه عارض جورج دابليو بوش ودونالد رامسفيلد في سياستهم بعد التدخل، وعارض أوباما لانه لم يتدخّل في سوريا، وأيّده حين تدخّل في ليبيا، وعارض بشدة نية ترامب "الانعزال" عن العالم الخارجي. لكنه ظهر ان سياسة ترامب "انعزلت" بالاسم، لترفع من وتيرة التدخل في كل مكان، انما لتتأرجح وتشهد نوبات صعود وهبوط عديدة، لا سيما في العلاقة مع موسكو. جون ماكين كان يرمز لسياسة أكثر انسجاماً مع نفسها، على يمين اوباما، أقل يميناً من ترامب، لكنها سياسة لم يكن مكتوباً لها تبوّؤ مركز القرار الاميركي الاول، وأقوى منصب في عالم اليوم، ليس فقط لانه لم يكن سباقاً في الكاريزما، أيضاً لانه لم يفهم ان موارد بلاده لم تعد تمكّنها من عيش دونالد ريغن مرة اخرى، ولا من ممارسة سياسات اميركا في التسعينيات ومطلع الالفية مرة اخرى.