وفور انتهاء الانتخابات النيابية كان الكلام في الكواليس السياسية بأنّ تشكيل الحكومة سيأخذ بعض الوقت وهو لن يكون سهلاً، لكنّ التوقعات يومها رجّحت تأخيراً لأشهر معدودة بحيث يجري الاتفاق على الحكومة قبل نهاية الصيف تحت ضغط الواقع الاقتصادي الخطير الذي يهدد البلاد بالافلاس.
لكن مع مرور الوقت ظهر للجميع انّ الازمة الحكومية باتت في عنق الزجاجة الاقليمية، وانّ الدلع والجشع اللذين أخّرا ولادتها ربطاها بالمشاكل الاقليمية الكبيرة وسط صراع المحورين الايراني والسعودي.
صحيح انّ العقد الحكومية الثلاث، المسيحية والدرزية والسنية، تتصدر النقاشات والمواجهات على وسائل الاعلام، وتبدو معها الاطراف السياسية وكأنها باتت أسيرة مواقفها المعلنة، وهي بالتالي غير قادرة على التراجع ولو خطوة الى الوراء، ولكن الحقيقة المستخلصة من التجارب السياسية اللبنانية تؤشر الى انّ هذه العقد على أهميتها قابلة للحل لو كان هنالك نيّة جدية لتشكيل الحكومة، لكنّ المشكلة الحقيقية هي في الصراع الاقليمي وموازين القوى على الساحة اللبنانية، ما يدفع باتجاه تجميد اي إمكانية لإنتاج تسويات.
في الكواليس السياسية ثمة تشاؤم يزداد يوماً بعد يوم وآخر، توقعاته ان الولادة الحكومية لن تحصل قبل شهر تشرين الثاني موعد الدفعة الثانية للعقوبات على ايران. والرابط بين هذه العقوبات والتشكيلة الحكومية اللبنانية انّ الضغوط الحاصلة على ايران والمرشّحة لأن تتصاعد ستؤدي الى تراجع النفوذ الاقليمي الكبير لايران، ما سيسمح عندها بولادة حكومة جديدة تحتضن توازنات سياسية معاكسة للتوازنات التي أرستها الانتخابات النيابية الاخيرة.
ووفق هذه الحسابات فإنه لا يمكن التسليم «بسقوط» الحكومة وهي ساحة نفوذ سنية، بعد «سقوط» مجلس النواب لصالح محور ايران في المنطقة. عدا عن انّ التسوية الرئاسية كانت قد قضت بقبول السعودية بوصول العماد ميشال عون حليف ايران وسوريا الى قصر بعبدا، في مقابل قبول ايران و«حزب الله» بعودة سعد الحريري حليف السعودية الى رئاسة الحكومة ولو وفق خطاب سياسي رسمي لبناني يرتكز على النأي بالنفس حيال الحرب الدائرة في سوريا.
لكنّ ركائز التسوية الرئاسية سقطت بدورها مرة بعد نجاح الرئيس الاسد بانتزاع موافقة دولية على بقائه، ومرة اخرى بعد النتائج الصاعقة للانتخابات النيابية خصوصاً حيال تيار «المستقبل».
وفي الانتظار ثمة محطات إقليمية صعبة تخضع لرهانات مختلفة وعلى اساس توظيف انعكاساتها لبنانياً في الملف الحكومي، خصوصاً انّ ولادة هذه الحكومة عندما تحصل ستعني انها ستعمّر طويلاً وستواكب أحداثاً كبيرة، خصوصاً على الساحة السورية.
والواضح انّ ادارة دونالد ترامب ماضية في برنامجها الضاغط على ايران لإجبارها على الجلوس الى طاولة المفاوضات، واتخاذ تفاهمات سياسية معها حول المنطقة. كذلك هناك ساحات مفتوحة أبرزها سورياً حيث يبدو، وخلافاً للاعتقاد السائد، أنّ إنجاز تسوية حول إدلب ليس بمسألة قريبة، اضافة الى ساحة اليمن البعيدة، ولكن التي هي على تماس مع لبنان والاعلان عن استقبال امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله لوفد الحوثيين هو أبرز دليل على ذلك.
ووفق بعض الرهانات فإنّ الحزمة الثانية من العقوبات الاميركية على ايران، والمقرر الاعلان عنها في الخامس من تشرين الثاني المقبل، ستكون أشد قسوة وستطال قطع المدخول النفطي بشكل كامل من ايران.
فعلى الرغم من الحزمة الاولى من العقوبات، فإنّ وضع ايران الاقتصادي ليس بالسوء الجاري تصويره. فموازنة ايران قائمة على اساس سعر البرميل 55 دولاراً أميركياً فيما سعره اليوم هو حوالى الـ70، ما يسمح بتعويض بعض الانخفاض الذي طرأ على تصدير النفط الايراني.
لكنّ رهان أخصام طهران هو على وقف تصدير كامل النفط الايراني، ما يدفع حكام ايران للرضوخ وبالتالي تعديل موازين القوى في الشرق الاوسط. ويتقاطع ذلك مع كلام ومواقف لأكثر من مسؤول لبناني حول احداث كبيرة متوقعة في المنطقة. لكنّ هذه الرهانات لا تبدو صائبة، كما لا يمكن التعويل عليها وحشر الملف الحكومي اللبناني فيها.
فالمعلومات تشير الى انّ طهران قررت رفع مستوى المواجهة فيما لو ذهبت الامور باتجاهات اكثر قسوة، ولو أنها تركت الباب مفتوحاً لنقاش غير مباشر مع واشنطن ومن خلال موسكو ما يزال من المبكر التعويل عليه.
فإيران تفاهمت مع دمشق على إبقاء قواتها في سوريا اضافة الى المجموعات المتحالفة معها من دون وضع حد زمني، وتمّ ابلاغ موسكو بذلك. وكذلك فعل «حزب الله» في وقت يجري ترتيب «حزب الله» السوري وتطويره، اضافة للبدء بإنشاء قوة شعبية مساندة للجيش السوري على غرار الحشد الشعبي في العراق.
امّا حول النقطة الاهم والمتعلقة بخنق ايران نفطياً، فثمة توجّه إيراني بأنه في حال الوصول الى ذلك، فإنّ طهران ستنفّذ تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز بزرع الالغام فيه: امّا النفط للجميع او لا نفط لأحد. وفي حال الوصول الى هذه المرحلة في تشرين الثاني المقبل، فهذا سيعني رفع مستوى التشنج والمواجهة في كافة ساحات المنطقة بدءاً من اليمن، أضف الى ذلك انّ تخبّط ترامب بأزمته الداخلية التي باتت تهدد بقاءه في البيت الابيض ستجعله اكثر عدوانية وستدفعه لافتعال أزمات خارجية لتحويل الانظار عنه والتخفيف من المخاطر الداخلية عليه. وبما انّ الحرب المباشرة ممنوعة بسبب معارضة المؤسسات العسكرية والامنية الاميركية لها، فإنّ ترامب قد يسعى لرفع مستوى المواجهة ولو بالواسطة.
واذا أخذنا مجمل هذه الصورة المتشائمة، فهذا يعني انّ الضغط الداخلي في لبنان سيزداد، مع احتمال إعادة التلويح بسلاح الارهاب طالما انّ الباب اصبح مفتوحاً امام عودة متجددة لداعش، ولو وفق مجال مدروس وممسوك أكثر بكثير من السابق.