.
وإذا لم تحصل مفاجأة من النوع الذي اعتاد ترامب أن يتحفنا به، بأن يصدر قراراً بسحب قواته من بلاد الشام من دون سابق إنذار، فإن الإعلان الأميركي عن بقاء هذه القوات يشكل انقلاباً على تأكيده قبل أشهر أنه يريد انسحاباً في أسرع وقت، وعلى تحضيرات طلبها لتنفيذ وعده هذا في موعد قيل إنه في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل كحد أقصى.
وإذا كان بولتون ربط الانسحاب الأميركي بهدفَي الحؤول دون استعادة "داعش" زمام المبادرة، والعودة إلى السيطرة على بعض المناطق، وضمان الانسحاب الإيراني من سورية، فإن موسكو احتاطت لما بعد تفاهمات هلسنكي بأن الدعوة إلى الخروج الإيراني يفترض أن تصدر عن النظام السوري، وأن القيادة الروسية ليست قادرة على إجبار إيران على الانسحاب. فُهم من هذا الموقف في حينها أنه عندما يطلب القيصر من بشار الأسد إصدار بيان يطلب فيه انسحاب القوات الأجنبية، ومنها الإيرانية، لن يتردد في ذلك.
حين مهد بوتين لهذا الاحتمال في محادثاته مع الجانب الإيراني، بحجة الموافقة الأميركية على بقاء الأسد في السلطة مقابل انسحاب طهران، يبدو أنه لم يهمل نصيحة مستشار المرشد علي أكبر ولايتي بأن يستخدم ورقة الانسحاب الإيراني من أجل الحصول على انسحاب أميركي وتركي أيضاً.
وبمقدار سعي موسكو إلى الإفادة من تسليم ترامب بأن لها اليد العليا في سورية، وأنه مستعد لعقد صفقة معها، ففي واشنطن ما زال رجال البنتاغون وبعض الخارجية والاستخبارات عند قناعتهم بأن روسيا "عالقة" في سورية، وهي العبارة التي رددها بولتون أول من أمس. هؤلاء يدعون إلى الإفادة بدورهم من حاجة الكرملين إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، لأنه مقتنع بأن ولوج الحلول للأزمة السورية وإعادة النازحين وإعادة الإعمار... غير ممكنة من دون هذا الاتفاق. واشنطن باتت تأخذ بنصيحة بعض خبرائها في المنطقة حول ذلك مستعينين بالمثل القائل: أنت حطّمتها. أنت أصلحها وخذها... وروسيا ليست في وارد تحمل كلفة "إصلاحها"، بل تريد إغراء دول الغرب كي تنفق الأموال على إعادة الإعمار عبر خطتها لإعادة النازحين، فيما هذه الدول تشترط حلاً سياسياً وفق القرار 2254.
على صحة القول إن سورية ليست أولوية عند ترامب، لا تقل صحة القناعة بأن الوجود الإيراني في سورية أولوية لإدارته من باب ضمان أمن إسرائيل، وفي ظل العقوبات ضدها للحد من نفوذها الإقليمي، فضلاً عن استمرار وجود "داعش" في بعض مناطقها. والقوات الأميركية ترصد منذ أشهر، وبعد الإعلان الروسي والعراقي الانتصار على تنظيم "الدولة الإسلامية" وجود مقاتليه في مناطق البادية وغيرها، والمعلومات الاستخبارية الأميركية تتحدث منذ مدة عن استعادة التنظيم مناطق كان خرج منها. حجة "داعش" ما زالت قابلة للاستخدام لدى كل الأطراف للبقاء على استنفارها الأمني والعسكري. فلماذا لا يستخدمها الأميركيون مجدداً إذا كان الروس والنظام والإيرانيون والأتراك يستخدمونها لمواصلة العمليات العسكرية على الأرض السورية؟ ما حصل في محافظة السويداء مثل على استثمار مجازر "داعش" من قبل النظام والروس، لجلب مناطق إلى بيت الطاعة.
وإذا كان الجانب الروسي يرصد وجود نحو 20 قاعدة عسكرية أميركية لما يقارب 2500 جندي من القوات الخاصة، في مناطق التواجد الكردي وخارجها، أبرزها التنف على الحدود مع العراق، ، فإن هذه القوات قابلة للتخفيض، على نمط التخفيض الذي سبق لبوتين أن أعلنه بعد تأكيده النصر على "داعش" مطلع هذا العام، لتعود الشرطة الروسية فتتكاثر على الأرض والطائرات في الجو بعد أسابيع قليلة.
مع أن بولتون أكد عدم الاتفاق مع روسيا على طريقة استعادة إدلب من المعارضة وإخراج "النصرة" منها، فإنه عارض استخدام السلاح الكيماوي فيها ولم يرفض العمل العسكري. بقاء القوات الأميركية مؤشر إلى أسلوب أميركي جديد بعدم تكرار تجربة الانسحاب الأميركي من العراق بلا نتائج سياسية، ومن دون التورط على الأرض أكثر وخوض المزيد من الحروب، بل على العكس، التمهيد لصفقة مع موسكو، حتى المتشدد بولتون يريدها. والتوصل إليها يتطلب الاحتفاظ بمناطق النفوذ في شمال شرقي سورية، وتأمين الحماية للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والمساعدة على إعادة الإعمار فيها، وتأمين صمود مواردها المالية... بموازاة "التعايش" مع بقاء الأسد، إلى حين نضوج أي اتفاق بين الدولتين الكبريين، ليتبادلا التنازلات.