كانت رحى الليرة تدور مالياً وسريعاً جداً، وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يفكر اقتصادياً وسياسياً، كمن يركض وسط الفوضى، مسلحا بالسيطرة والنفوذ، وبأقربائه الذين أوكل إلى أحدهم أهم مفاصل العمل المالي بالبلاد، وهو وزير المالية بيرات البيرق. ومع الهزة الأولى هوت الليرة التركية 20% خلال أيام لتفقد أكثر من 40% من قيمتها منذ بداية العام الحالي، بانتظار الخيارات الخمسة الصعبة، لانتشال الليرة من الانهيار، وهي:
1 - الركض وسط الفوضى
وهو ما يجري حالياً، حيث اختار الرئيس التركي، إطالة مدى ملف العملة الأكثر صعوبة في هذه الأزمة، إلى أكثر مدى ممكن، وتحدي مختلف الضغوط المستغلة مع الولايات المتحدة، ومواصلة إثبات السيادة على حساب قدرات الاقتصاد وصورته، وتداعيات ذلك على المستثمرين والدائنين والأسواق الناشئة المجاورة لتركيا جغرافيا أو بالعلاقات التجارية.
وتزيد الديون التركية الخارجية بعملات مثل اليوان الصيني والجنيه الإسترليني لأكثر من 50% من الناتج القومي التركي الإجمالي، وهو التحدي الأكبر في ظل انخفاض كبير لليرة وعزوف للمستثمرين الأجانب عن ضح استثمارات جديدة جنباً إلى جنب مع حرب تجارية تتصاعد مع الولايات المتحدة.
2 – تقديم تنازلات خارج المال
لم يكن احتجاز القس الأميركي أندرو برونسون عام 2016، التوتر الوحيد بين أنقرة وواشنطن لكنه مع جملة من الخلافات العميقة، تحول إلى عنوان عريض للأزمة. وفيما يرى السياسيون في القس مصدر قوة نظراً لحساسية التهم الموجهة له، إلا أن كثيرا من الماليين والاقتصاديين باتوا يرون في القس كبشاً ثميناً يمكن التضحية به بعد أن رفعت الأزمة المالية الغابرة من قيمة تأثيره على المشهد، وهو ما تكشف بعد تسريبات صحيفة "وول ستريت جورنال" عن عرض تركي بالإفراج عن القس رفضته إدارة ترمب.
3 - رفع الفائدة
الحل السحري الذي يشبه عقار الكورتيزون بكل اقتصادات بالعالم، هو رفع أسعار الفائدة، الذي سيكبح الطلب ويخفض تضخم الأسعار، لكن أردوغان ربما أنه لا يقوى على القول صراحة إن أسعار الفائدة كلها رجس من عمل الشيطان، فإنه يظل يردد أن سعر الفائدة المرتفع هو المؤذي للاقتصاد، وبهذه الحالة، يكون الرئيس التركي كمن يمنع خافض الحرارة كلما اشتدت الحمى، فتكون النتائج كارثية!
وفي مقابلة مع "العربية" اعتبر سعادة شامي، كبير الاقتصاديين لمجموعة بنك الكويت الوطني أن رفع الفائدة التركية بنسب بسيطة لن يفلح بمواجهة الأزمة الكبرى التي تواجهها الليرة التركية مؤكداً أن نسبة 1.5% التي جرى الحديث عنها لا تغني ولا تسمن بهذه الأزمة فربما احتاجت تركيا إلى استراتيجية محكمة في سياسات رفع أسعار الفائدة علها تفلح بالعلاج.
وحتى قبل اندلاع الأزمة، كان الاقتصاديون يحثون تركيا على رفع أسعار الفائدة بشكل حاد لدعم الليرة وكبح التضخم، لكن أردوغان في كل مرة كان يسير بالاتجاه المعاكس، جاعلاً من عملة بلاده، سلاحاً قوياً بيد غيره من شركائه التجاريين، ومدعياً في إحدى خطاباته بقدرته على "البحث عن شركاء وحلفاء جدد" وهذا في عالم التجارة كلام غير عقلاني، فالتجارة ربح وخسارة ومصالح صعبة التوافق والتحقق، وليست منتصرا ومهزوما.
4 - استعادة الثقة
لم تأتِ الأزمة التركية فجأة، إنما ظهر أثر الحمى سريعاً فالخلل الهيكلي والمالي تعود جذوره للعام 2015 عندما بدأت تركيا فعلياً تعاني من سياسات نقدية ومالية توسعية أدت لاختلال الميزان التجاري الخارجي، وعجز الميزانية العامة.
ودفع الخلل الهيكلي المزمن نسبة التضخم إلى أكثر من 15% في تموز الماضي، وتراكمت المشاكل على مدى نحو 3 سنوات ماضية، بانتظار الفرصة السانحة للانفجار والتأثير على المؤشر المالي الأهم، وهو سعر صرف العملة التركية شديد الحساسية لأمرين: ثقة العالم والعلاقات التجارية معه.
وليستعيد أردوغان الثقة ربما عليه التخلي عن التدخل بالسياسات المالية المتعلقة بالإنفاق العام للدولة وتوجيه دفته نحو التحديات التركية مع العالم، وليس الأولويات "الأردوغانية"، ويبدو أنه بعيداً كثيراً عن هذا المنهج مع تمسكه بوجود صهر له على أعلى هرم الإدارة المالية بالبلاد وهو زوج ابنته البيرق الذي سيظل مرفرفاً كإشارة عدم ثقة أمام مستثمري العالم.
ولم يكتف الرئيس بإحكام قبضته دستورياً على السلطات بالبلاد، فراح يمعن أكثر بالشخصانية في إدارة الملف المالي عبر زوج ابنته.
5 - طلب المساعدة.. مِن مَن؟
عندما خفضت وكالتا ستاندرد أند بورز وموديز اللتان تقومان بالتقييم المالي للدول، رتبة تركيا وتصنيف ديونها السيادية إلى مستوى "غير مرغوب به" كان السببان البارزان لهذه الخطوة هما "افتقار تركيا لخطة واضحة للأزمة ذات مصداقية" و"عدم وجود استجابة لما يجري من المخاطر بشكل كافٍ".
ولتعويض الصورة القاتمة بالنسبة للوكالات المالية يتعين على تركيا بحسب اقتصاديين طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي وهي خطوة شبه مستحيلة وفق مفاهيم أردوغان، أو طلب إعادة هيكلة الديون مع الدائنين الذين يحملون خلافات مع تركيا في طريقة إدارة الشأن المالي لها.
وربما يكون من المفيد لتركيا السلطة التصالح مع نظامها الاقتصادي على مستوى القطاع الخاص، الذي عانى هو الآخر من تبعيات التفرد والتدخل بالسلطة المالية (الإنفاق) والنقدية (البنك المركزي) بشكل متوازٍ خانق.
ولا يمكن الجزم بأن يدي البنك المركزي التركي مقيدتان تماماً، لكن أردوغان كشف حجم تقييده للسلطتين المالية والنقدية عندما اضطرته الأزمة في يومها الثالث، وهذا متأخر جدا بمقاييس العملات، إلى الإفراج عن بعض التيسيرات التي قام بها البنك المركزي التركي، ومنها توفير المزيد من السيولة للبنوك، والسماح بحركة صعودية لسعر الفائدة، ليظهر المشهد التركي كمن يناقض نفسه. فالرئيس رفض رفع أسعار الفائدة وهو اليوم يتركها ترتفع عنوة تحت وطأة انهيار العملة.