تتجاوز الحملة التي يقودها «حزب الله» في لبنان للتطبيع مع نظام بشار الأسد سلوكيات النكد السياسي التقليدي في هذا البلد.
هي لحظة جديدة من لحظات المواجهة المرة مع «لعنة الجغرافيا»، يواجهها لبنان، فكيف وأمين عام «حزب الله» حسن نصر الله، يعلن النصرين: نصر سابق في لبنان عام 2006، جدد الاحتفال به، ونصر في سوريا ربطه بالأول في خطاب واحد.
ثمة أمر واقع في سوريا عنوانه انتصار الأسد. صحيح أنه انتصار في بلد دمرت فيه أكثر من نصف الوحدات السكنية، وهُجر أو نزح من أهله أكثر من 13 مليوناً داخل سوريا وخارجها، ومات وجرح وأُعيق من بنيه ما يفوق القدرة على العد؛ لكنه بمعيار الأسد وحلفائه انتصار. سبق أن انتصر نصر الله على إسرائيل، على حساب اقتصاد لبنان وتماسك سلمه الأهلي الهش، من دون أن تدخل هذه الأثمان في حساب الربح والخسارة.
وإذ يُعلَن عن النصرين في بيروت، فهو إعلان عما يترتب عليهما من نتائج سياسية.
من يضغطون للتطبيع بين لبنان وسوريا، لا ينطلقون من «لعنة الجغرافيا» وما تستوجبه من حرص على بناء قواعد سليمة للعلاقة بين البلدين، ومراجعة العلاقات اللبنانية السورية قبل الحرب السورية وبعدها، إنما ينطلقون من الرغبة الجامحة لتثمير انتصار الأسد، بوصفه انتصاراً في الداخل اللبناني قبل السوري.
فمن يريد التطبيع مع سوريا، لا يبدأ من أن يكون ممثل العلاقات بين البلدين هو اللواء علي المملوك، المطلوب للقضاء اللبناني بتهمة الاشتراك في التآمر على الأمن القومي، في قضية ميشال سماحة! ومن يريد التطبيع الحقيقي، لا ينتحل صفة لهذا التطبيع هي ملف عودة النازحين السوريين الذين يرفض النظام عودتهم، أو هو يراكم الشروط التي تجعل عودتهم مستحيلة، لا سيما وهو القائل إن المجتمع السوري بات «أكثر تجانساً» بعد الحرب. فهل علينا أن نصدق أن من صقل تجانس المجتمع السوري بالبراميل المتفجرة والتهجير الجماعي، يريد اليوم العودة إلى ما قبل زمن التجانس؟!
هي مترتبات «زمن الانتصارات» ليس أكثر، والاستعجال للعودة بعقارب الساعة إلى وراء قصي يتصل بموقع لبنان ودوره، لا بالنسبة لسوريا فقط؛ بل بالنسبة لعموم الأدوار والمواقع في الإقليم.
ففي خطابه الأخير وما تلاه، أعلن نصر الله بوضوح، أن لبنان على أبواب مرحلة سياسية جديدة. إلى سوريا ونصرها ومترتباته اللبنانية، أحيا نصر الله الهجوم العلني على المملكة العربية السعودية، ثم أعقب ذلك باستقبال علني لوفد من جماعة الحوثي، ليقول إنها معركة واحدة تخاض ضد عدو واحد على جبهات عدة.
ولئن كان من الطبيعي أن يتصرف نصر الله على هذا النحو، فإن المخيف في افتتاح هذه الحقبة هو الموقع الغامض لرئيس الجمهورية ميشال عون حيال الأولويات السياسية التي يدفع بها «حزب الله» إلى الواجهة.
تزداد الشكوك أن المطالب السياسية بشأن تركيبة الحكومة وتوزيع الحصص فيها وشهوات التحجيم التي يعبر عنها صهر الرئيس، وزير الخارجية، جبران باسيل، ليست مطالب قائمة بذاتها، بقدر ما هي غطاء لاستيلاد الحكومة ضمن تصور سياسي، يأخذ بعين الاعتبار ما عبر عنه نصر الله في خطابه الأخير، حول انتصار المحور الذي ينتمي إليه. وبالتالي ينطوي موقف الرئيس عون على موقف سياسي يتجاوز نظرته لصلاحياته أو موقعه، إلى الموقع والدور السياسيين للعهد، ضمن لعبة المحاور المشتعلة والتي ستزداد اشتعالاً. وشيئاً فشيئاً يبدو أن الرئيس يغادر منطقة التسوية التي أتت به رئيساً إلى منطقة جديدة، توحي بأن انتخابه ما كان بالفعل إلا بشارة مبكرة للانتصارات التي يتحدث عنها نصر الله اليوم.
في الموضوع السوري، لم ينجح الرئيس في تقديم موقفه كرئيس للبنان محكوم بالتعاطي مع «لعنة الجغرافيا» قاطعاً الطريق على الاستثمار الانتصاري لـ«حزب الله»، وواضعاً قواعد وطنية لإعادة ترتيب العلاقات اللبنانية السورية. وفي موضوع علاقات لبنان العربية، لم ينجح الرئيس في جعل كرسي الرئاسة حصناً منيعاً لسياسة النأي بالنفس، وتحويلها من مجرد ورقة تين نغطي بها عورة العجز السياسي إلى سياسة حقيقية تحمي لبنان ومصالح اللبنانيين.
حسناً فعل الرئيس المكلف سعد الحريري، حين قال إن لا حكومة ستتشكل إذا كان الثمن التطبيع مع نظام الأسد، وهو في موقفه هذا وضع بهدوء كثير سقفاً عالياً مسنوداً من الثنائي وليد جنبلاط وسمير جعجع. وربما وجب الذهاب أكثر في مواجهة استسهال «حزب الله» الرجوع إلى اللعب بالورقة اليمنية، وإسقاطه الفعلي لسياسة النأي بالنفس، وهو ما يتطلب موقفاً من رئيس الجمهورية، من دونه سيظل موقف رئيس الحكومة ناقصاً وضعيفاً.
ثمة مؤشرات خطيرة بأن العهد ينزلق في الاتجاه الخاطئ، وأن «حزب الله» قد ينجح في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، في ظل سعي حثيث لتحويل رئاسة ميشال عون إلى ما يشبه رئاسة إميل لحود..
العودة إلى العام 1998 خطيرة.. مسؤولية الرئيس ليست أقل من تاريخية.