جاء لافروف إلى أنقرة للتحدث مع الأتراك بشأن سوريا، وبشأن تأزم علاقات الطرفين بالولايات المتحدة. لكن الحصيلة ما كانت لصالح تركيا. ولا للتحالف المنتظر بين الأطراف الثلاثة: روسيا وإيران وتركيا. ففي شأن اتفاقية خفض التصعيد اعتبر الروس أن المهلة التي أعطوها لتركيا لحل مشكلة «النُصرة» استنفدت وقتها وفاعليتها. فصحيح أن لتركيا الآن اثني عشر موقعاً بداخل محافظة إدلب، لكنها مواقع في مواطن تسيطر عليها تنظيمات عسكرية أخرى، لا يشملها قرار مكافحة الإرهاب الذي يشمل «النُصرة». فتبقى «النُصرة» أو «هيئة تحرير الشام» مسيطرةً في أكثر النواحي. فمن الذي سيقرع الجرس؟ من الذي سيُزيل «النصرة» باعتبارها تهديداً إرهابياً؟ بل ومن الذي سينزع سلاح الآخرين، كما حصل فيما كان يسمى مناطق خفض التصعيد الثلاث الأخرى؟ تركيا في موقع ضعيف، لأن الأميركان اتفقوا مع الروس على الخروج بعد قليل من سوريا، وقبلوا أن يفاوض أحبابهم الأكراد النظام السوري. ولهذا فإن الأكراد والنظام السوري معاً يستطيعون شن حرب على مناطق الشمال والشمال الشرقي على جبهتين؛ الأكراد بحجة «تحرير عفرين»، والنظام وميليشياته بحجة تحرير إدلب من الإرهاب. وقد جادل الأتراك الروس والإيرانيين أن أهل إدلب هم سوريون مثل الأكراد، فلماذا لا يجوز لهم انتظار الحل السياسي أو التفاوض على الحل مع النظام مثل الأكراد وسلاحهم معهم؟ وبخاصة أن الهجمة على إدلب ستقتل الآلاف من المدنيين وبينهم الأطفال والنساء. وأُجيبوا بأن «النُصرة» موجودة في معظم المساحة، وأطراف الثورة الآخرون موجودون في المفاوضات بآستانة وأكثر بجنيف. وليست لدى تركيا غير نقطة قوةٍ وحيدة: الخوف من القتل والتهجير من جديد، بحسب المنظمات الدولية والاتحاد الأوروبي، وأن تركيا ما عادت تستطيع استقبال لاجئين سوريين فعندها ثلاثة ملايين ونصف. وتركيا حاولت أمراً آخر: أن تجمع بأنقرة الروس والإيرانيين والفرنسيين والبريطانيين وممثلين عن الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن بريطانيا انسحبت، ولا ندري إن كان الروس بعد زيارة لافروف سيظلون موافقين على الاجتماع. إردوغان يريد إشراك الأوروبيين في إعادة اللاجئين، وهم يرحبون بذلك ومستعدون للإسهام مادياً ولوجيستياً مع الأمم المتحدة، بشرط أن يكونَ ذلك جزءاً من الحل السياسي وليس كما يريد الروس في مشروعهم «الخيالي»، المقصود به الحصول على مساعدات للنظام إن أمكن، وإعادة الذين يريدون باعتبارهم شبه متهمين، ولا ضمانات لهم غير رحمة الروس الذين لم يفوا بتعهداتهم من قبل. ولذلك فإن لافروف أعلن عن انزعاجه من الأوروبيين بعد اجتماعه بوزير الخارجية التركي.
ويزيد زمن إردوغان صعوبةً تحول الولايات المتحدة ضده في عدة أمور، دون أن تكون عنده نقطة قوةٍ واحدةٍ في خصامه معهم: من القس الأميركي المحتَجَز، وإلى رجل البنوك التركي المسجون لمخالفته للعقوبات المالية الأميركية القديمة على إيران، فإلى العقوبات التي فُرضت على وزيري الداخلية والعدل، وأخيراً الضرائب المرتفعة على صادرات الحديد والصلب وبعض النتاجات الصناعية التركية الأخرى. ووسط هذه الأزمة قد يجد الأتراك وأنصارهم أنفسهم يقاتلون على جبهتين ضد الأكراد والنظام، في الوقت الذي يزعمون فيه أنهم يريدون إعادة أكثر من نصف مليون نازح سوري، صنعوا لهم بأنفسهم ملاذات آمنة بالمناطق التي سيطروا عليها في الشمال السوري.
الروس يستعجلون الكسب المعنوي والمادي، ويراهنون على أن ترمب لا يريد مخاصمتهم، رغم موافقته على قرار الكونغرس تشديد العقوبات الأميركية على إيران. لكن أحداً لا يجرؤ على تحدي أميركا بمن فيهم الروس. وحتى الصينيون يمشون مع الأميركان على طريقة شكسبير: دقة بدقة. والهند الصديقة للطرفين تُعلن عن تخفيض استيرادها للنفط الإيراني بنسبة 50 في المائة خوفاً من العقوبات الآتية في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني). وهذه الحروب التجارية والسياسية المستعرة يأمل الجميع أن تكونَ مؤقتة. فحتى الألمان الذين عمل إردوغان كل ما بوسعه لمعاداتهم بسبب شدة ذكائه وحسابه للعواقب (!)، قالوا إنه لا مصلحة لأحد في تدمير الليرة والاقتصاد التركي!
الإيرانيون حمقى، لكن حماقاتهم قديمة. ولأنهم كانوا يصمدون أو يفوزون في كل معاندة؛ فإنهم يأملون أن يفوزوا هذه المرة أيضاً إن صمدوا وصبروا ولو حتى نهاية عهد ترمب. بينما يشك خبراء إيرانيون وأتراك في القدرة على الصمود لسنتين قادمتين. ومع أن الأوروبيين أكثر قدرةً على الصمود بعد الاتفاق الغامض بين ترمب ومفوض السوق الأوروبية؛ فإنه وفيما عدا الاقتصاد الألماني الضعيف النمو، ليس هناك اقتصاد أوروبي آخر نامٍ، وترمب لا يريد الاتحاد الأوروبي، ولا حلف الأطلسي. نعم، هذه المرة الرئيس الأميركي هو الذي يصارع الناتو والاتحاد الأوروبي وليس الروس! والرئيس الروسي متضايق جداً من الوضع الاقتصادي في بلاده، وقد كف عن الشماتة بالأوروبيين، لكن أحداً حتى الآن - بما في ذلك الصين - لا يريد إقامة تحالف ضد الولايات المتحدة؛ لأن مصالح العالم الاقتصادية بنسبة 40 في المائة هي مع الولايات المتحدة، وبخاصة في أوروبا والصين والهند والعالم الإسلامي!
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت لدى المؤسسات والرئاسة الأميركية ثلاث أولويات ودعوى رابعة: الزعامة السياسية، والزعامة العسكرية الاستراتيجية، والزعامة الاقتصادية. والدعوى هي: المسؤولية عن الحريات والديمقراطيات والاستقرار. وبسبب الاقتناع على أميركا، لا في العسكر ولا في الاقتصاد؛ فقد تطورت ثقافةٌ للتفاوض يقودها الأميركيون أيضاً، ويوزعون الأدوار والأفضليات في توازناتٍ صارت مقولةً عندما أَدْمنَ العالم أميركا وأسلوب حياتها... وحتى سياساتها وعساكرها. بيد أن هذه الثوابت النسبية طرأ عليها الاختلال بعد انتهاء الحرب الباردة لسببين؛ تعاظُم الهيمنة الأميركية من جهة عندما اختفت القوة التوازنية والاقتراحية الروسية، وسيطرة المحافظين الجدد على إدارة الرئيس بوش الابن بعد هجمات سبتمبر (أيلول)، وكان هؤلاء يرون أن أمن أميركا وأمن العالم لا تحفظهما غير القوة العسكرية الأميركية. وكان الرئيس أوباما، وهو الرئيس الأميركي الأسود الوحيد، آخِر مَنْ حاول العودة إلى ثوابت السياسة الأميركية في زمن ما قبل الهيمنة. وعندما قرأ كتاب فريد زكريا: «ما بعد العصر الأميركي» (2009) ضحك وعلق: «نحن الذين بيدنا إخراج العالم من الإدمان الأميركي، والذي أخشاه ألا يستطيع العالَم الكف عن ذلك!»
ومع أن رئاسة ترمب ما كانت متوقعةً باعتباره ما كان شعبياً لدى النُخَب؛ فإنها تميزت منذ دعايته الانتخابية بأمرين؛ مخاطبة غرائز شعبوية لدى العامة والناخبين البيض والريفيين، واعتقاد أن العالم يحتاج إلى أميركا ويستغلَها وأميركا لا تحتاج إلى أحد! ولولا وجود مؤسسات دستورية وقانونية راسخة بالبلاد، ولولا عقدة ترمب السرية في علاقته بروسيا، ولولا الإدمان العالمي للعلاقة مع أميركا، لنجح الرئيس الأميركي في إحداث اضطراب هائل بالداخل ومع العالم! ورغم حروبه الهوجاء على علاقات أميركا بالعالم، وإثارته حروباً تجاريةً وسياسيةً هوجاء أيضاً؛ فإن الاقتصاد الأميركي لا يزال في حالةٍ جيدة، رغم كثرة تشكيكات المفكرين الاقتصاديين. أما الذين ليسوا في حالةٍ جيدة فهم أصدقاء الولايات المتحدة السابقون: أوروبا واليابان وكندا وتركيا. وكذلك الشراكات الاستراتيجية والاقتصادية مع روسيا والصين والهند.
مشكلات العالم كبيرة وكثيرة. وهو محتاجٌ إلى قيادة فردية أو جماعية من خلال المؤسسات الدولية. والرئيس ترمب لا يريد قيادة العالم، كما أنه لا يميل إلى المشاركة في المسؤوليات الجماعية، فإلى أين يذهب العالم؟!