يسعى المحور الإيراني- السوري إلى الإفادة المبكرة من قدرته على الصمود في وجه الضغوط عليه، انطلاقاً من النتيجة التي بلغتها الحرب في سورية وقضت بثبات نظام الرئيس بشار الأسد في الحكم، من أجل الإيحاء بأنه حقق الانتصار المؤكد في معركته مع المحور العربي- الغربي الآخر.
لكن أرباب هذا المحور ينسون أنهم منذ العام 2011 يدعون الآخرين إلى التسليم بانتصاره. هذه هي حال نظام دمشق وطهران و «حزب الله» على مر السنوات الأربع الماضية... في كل مرة يضربون موعداً لانتهاء الحرب في سورية، ولانتصار مشروع الحوثيين في اليمن، ثم لا يلبث الصراع أن يتجدد ويتصاعد سياسياً وعسكرياً.
ولعل الحاجة إلى رفع معنويات جمهور هذا المحور عبر دعوة الآخرين إلى التسليم بانتصاره هي أحد العوامل التي تتحكم بخطابه، فهذا الجمهور تعب من المعارك التي يفرض «حزب الله» عليه تحمل تبعاتها في الإقليم. وكلام الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله قبل 3 أيام واحد من الأدلة على تلك الحاجة في وجه «ما هو قائم وما هو آت»، قاصداً بذلك العقوبات الاقتصادية والضغوط المتصاعدة على إيران وسورية وعلى الحزب نفسه، إذ إن الأخير يدرك أن عقوبات جديدة آتية ضده في الخريف عبر مشروع قانون يبحثه الكونغرس الأميركي تحت عنوان «نزع سلاح حزب الله»، بالإضافة إلى المرحلة الثانية من العقوبات القاسية على طهران نفسها. جزء كبير من كلامه خاطب فيه جمهوره، حتى حين توجه إلى الخصوم البعيدين والقريبين بالتهديد. مرة أخرى يطلب نصر الله من جمهوره الصمود في وجه الضغوط، والصمود يستبطن القول إن المعركة لم تنته.
قبل أسبوعين كانت الحال السياسية والنفسية لقادة هذا المحور تتعاطى بليونة مع نتائج تفاهمات قمة هلسنكي، التي قضت بحفظ أمن إسرائيل مقابل تسليمها ببقاء الأسد في الحكم والتحضير للتواصل مع نظامه في إطار اتفاق فك الاشتباك في الجولان، والبحث عن طريقة للتكيف مع مطلب انسحاب إيران من سورية، عبر دعوة موسكو إلى الإفادة من ورقة الانسحاب الإيراني من أجل الضغط لانسحاب القوات الأميركية والتركية من بلاد الشام.
لكن قبل أيام قليلة عاد محور إيران وسورية و «حزب الله» يستفيد من سياسة دونالد ترامب وعقوباته على تركيا، ومن العقوبات الإضافية على روسيا، ما دفع أنقرة إلى الاقتراب أكثر من طهران، وموسكو إلى العودة لتأكيد تحالفها مع إيران، والتلويح بالتحلل من التزامات هلسنكي تجاهها. هذا ما بنى عليه نصر الله خطابه، مسقطاً اللحظة الإقليمية الدولية الشديدة التعقيد على الوضع اللبناني الداخلي وعلى تشكيل الحكومة الجديدة، ومطلقاً التهديدات للرئيس المكلف تأليفها سعد الحريري برفع سقف مطالبه، والقابلة للتغيير مثلما تغيرت أخيراً.
منذ أن بدأ تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة قبل أسابيع، والتكهنات تروح وتجيء عن العقد التي تعترض ولادتها إذا كانت محلية أو خارجية، في ظل وضوح لونها الداخلي المتعلق بالحصص والأحجام وبحسابات الزعامة، خصوصاً عند المسيحيين.
كبار القادة والمسؤولين نفوا وجود الأسباب الخارجية للعرقلة، بمن فيهم الحريري. حتى نصر الله قال إن العقد داخلية على رغم أن قادة حزبه رددوا العكس. لكنه عاد فقال في كلامه الأخير: «الآن نحن محورنا هو الذي ينتصر في المنطقة»... وعلى ذلك برر نيته رفع السقف إذا ثبت أن غيره يراهن على متغيرات إقليمية، لكنه أثبت في الوقت ذاته أن فريقه يبني حساباته في مطالبه الحكومية على الوضع الإقليمي.
يدرك أرباب المحور الممانع على رغم التقدم الذي أحرزوه، لا سيما في سورية بمساعدة روسية، أن اضطرار الدول الأخرى للتعايش مع بقاء الأسد في السلطة لا يعني التسليم منها بشرعيته، على رغم اتصالات بعضها الأمنية معه، وعدم استجابتها لدعوة موسكو لتمويل عودة النازحين هو أحد الأدلة على ذلك. ويسعى هذا المحور إلى «استعارة» شرعيته السياسية من البوابة اللبنانية، بالمراهنة على أن يدفع نفوذ «حزب الله» على الدولة إلى التطبيع معه. ما زال عقل حكام دمشق يؤمن بأن ترسيخ سطوته فيها مرتبط بمقدار نفوذه في لبنان.
الحرب السورية اخترعت تعبيراً لعمليات السبي ومصادرة الأملاك ونهب منازل المواطنين على أيدي «القوات الرديفة» للنظام (الميليشيات) حين تظفر بطرد قوات المعارضة من إحدى المناطق، هو «التعفيش». وفي لبنان، يتم «التعفيش السياسي» على القوى الرافضة التطبيع مع النظام لانتزاع الاعتراف به منها بالضغط، بعدما كان الحريري تلقف المبادرة الروسية لإعادة النازحين لتجنب التطبيع مع النظام. كل فريق يسعى لاقتناص اللحظة، و «حزب الله» ودمشق يسعيان لاقتناص اللحظة الجديدة للحصول على التطبيع.