تبيّن أنّ السلطات العامة غير قادرة على تأمين إدارة مياه الصرف الصحّي والنفايات التي تلوّث الخط الساحلي الذي يبلغ طوله 220 كلم.
 

إنّ مدينة صور الفينيقية القديمة، التي تقع على بعد 70 كلم جنوب بيروت، هي إحدى آخر المناطق في لبنان التي لا تزال تتمتّع بشواطئ رملية. إلّا أنّ الانتعاش على هذه الشواطئ في مياه البحر المتوسّط للهروب من حرارة فصل الصيف يبقى أمراً خيالياً. وعلى الواجهة البحرية، تنظّم البلدية خدمة «الفاليه باركينغ» لمطاعم المدينة، ولكن من الجانب الآخر للرصيف، تنتشر على الشاطئ العام نفايات من جميع الأنواع: الزجاجات البلاستيكية التي يُعدّ لبنان أحد أوّل مستهلكيها، للفرد الواحد، في العالم، وأكياس رقائق البطاطا والنفايات البلاستيكية... أمّا تحت الماء، بالكاد نرى أي سمكة أو صدفة. واختفت الرخويات والديدان والحيوانات الساحلية أو الأعشاب البحرية، الذي يخرج الغطّاس عادةً وهو يحمل بيديه كميّات منها.


وبالتالي، على الرغم من أنّ بلدهم يمتدّ على 220 كلم من البحر المتوسط، لا تذهب غالبية اللبنانيين إلى البحر إلّا نادراً جدّاً. إنّ السّاحل على أيّ حال مغطّى بالاسمنت، وهو «مُخصخَص» إلى حدّ كبير مع وجود المجمعات التي تُركِّز عروضها على المسابح بدلاً من البحر الواقع على بعد أمتار قليلة. والسبب هو: التلوّث.


وعلى الرغم من أنّه تمّ استثمار عشرات الملايين من الدولارات في محطات معالجة الصرف الصحي، لاسيّما من خلال التعاون الفرنسي، تصبّ أكثر من 80٪ من مياه الصرف الصحي مباشرةً في البحر، لأنها لا تتصِل بشبكة المجارير. إلى هذا التلوّث القديم والخفيّ نسبيّاً، أُضيف منذ عدة أشهر تلوّث أكثر وضوحاً بكثير ناجم عن «أزمة النفايات» التي دفعت عشرات الآلاف من اللبنانيين للتظاهر في تموز 2015 ضدّ تراكم حاويات النفايات في الشوارع.

المحسوبية وغياب المراقبة الصحية

إنّ الطبقة السياسية الحاكمة، التي أتقنت فنّ الاستيلاء على الأسواق العامة لأغراض زبائنية، غير قادرة على تنظيم الخدمات الأكثر أساسيّة، سواء كان ذلك توفير الكهرباء وإمدادات المياه أو جمع النفايات. وكـ»حلّ»، تمّ إنشاء مكبّين عملاقين على الشاطئ عند المداخل الجنوبية والشمالية للعاصمة، لكنّ المنظمات غير الحكومية المتخصّصة تدين غياب المراقبة الصحية وعدم شفافية بيانات الأعمال، وخصوصاً التصريف المستمر للنفايات والسوائل الصادرة من مدافن النفايات في المياه.


وفي أماكن أخرى في البلاد، تتسرّب هذه السوائل الملوّثة من مدافن النفايات لتمرّ في أنابيب الري أو المجاري المائية. ومن هنا، جاء تحذير مدير المعهد اللبناني للبحوث الزراعية: «التلوّث البحري يزداد بشكل كبير وغالبية مصادر المياه في البلاد ملوّثة، بما في ذلك الأنهار ومصادر مياه الشرب». هذه التصريحات انتشرت في كلّ وسائل الإعلام تحت عناوين مقلقة تدعو اللبنانيين الى القول «وداعاً للسباحة».


وبدلاً من أن تولّد ردّة فعل عند السلطات المعنية، وخصوصاً لدى وزارتي البيئة والصحة، فإنّ وزير السياحة هو مَن احتجّ على الضرر الذي وقع على قطاعه، بينما نشر مركز أبحاث آخر، في أعقاب هذا، خريطة تسلّط الضوء على 16 نقطة ساحلية، من بينها صور، من أصل 25 تمّ اختبارها بانتظام، تُعتبر السباحة فيها ممكنة.


وبرّر معين حمزة، أمين عام المجلس الوطني للبحوث العلمية، قائلاً: «لا يمكننا القيام بفحوصات على مصبّ المجارير والقول من ثمّ إنّ الساحل ملوّث بأكمله. هناك نقاط خالية من التلوّث حتّى لو كان ساحلنا يعاني كثيراً». كما أشارت ماري عبود أبي صعب، المديرة السابقة للبحوث في المركز الوطني لعلوم البحار، إلى أنّ طبيعة الساحل اللبناني المستقيم تقريباً تسهّل التبعثر السريع للملوّثات تحت تأثير تيار آتٍ من الجنوب باتجاه الشمال.


ولكن إذا كانت الدقة العلمية تمنع التحدّث عن تلوّث عام، فليس للباحثين والناشطين البيئيين والناشطين من جميع الأنواع ما يكفي من الكلمات القاسية لإدانة إهمال السلطات العامة. وفي فيلم وثائقي عن الاقتصاد السياسي للماء في لبنان بعنوان «ومن الماء، صنعنا كل شيء حيّ»، تحدّث الصحافي بول كوشران والباحث كريم عيد صبّاغ عن إهمال إجرامي، على قدر ما يُعتبر تأثير سياسة «عدم التدخّل» إلى جانب المصالح الخاصة للسلطة الحاكمة على البيئة والصحة العامة خطيراً.


إنّ قانون المياه الجاهز منذ عام 2005، الذي يشكّل الإطار القانوني للإجراءات العامة في هذا المجال، قد اعتُمد في شهر آذار بناء على طلب منظّمي مؤتمر سيدر الذي جمع في باريس جهات مموّلة دوليّة للبنى التحتية التي يحتاجها لبنان. أمّا تنفيذه فيعتمد على انتفاضة سياسية حقيقية يؤمن بها قليل من اللبنانيين. وبعد شهرين ونصف من الانتخابات النيابية، لم ينجح رئيس الوزراء سعد الحريري بعد في تشكيل الحكومة.