على رغم أنّ العُقد التي تعوق تأليف الحكومة هي محلّية، فإنّ لا شيء يضمن معالجتها وبالتالي استمرارها حتى إشعار آخر، ما يُدخل لبنان في أزمات ومخاطر يمكن تحديدُها بستة.
الخطر الأول الذي يتهدّد لبنان جراء الفراغ الحكومي هو من طبيعة اقتصادية، ولا يخفى على أحد حجمُ الضائقة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، وما دلّ الى ذلك زيارات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأسبوعية لرئيسي الجمهورية والحكومة، ورفع الفائدة على الليرة، وإفلاسات بالجملة، الاستغناء عن خدمات مئات الموظفين بغية تخفيف الأعباء وتجنّب الانهيار، العجز عن دفع المستحقات الحياتية والقروض الشخصية، وأزمة الإسكان، الدين وخدمة الدين إلى ارتفاع... كل المؤشرات تؤكد أنّ الأمور تتّجه إلى الأسوأ في حال لم يُصَر إلى تأليف حكومة تعمل فوراً على تطبيق برنامج «سيدر» من أجل إطفاء جزء من الدين العام وتحريك العجلة الاقتصادية.
الخطر الثاني من طبيعة وطنية، حيث إنّ استمرار الفراغ لا بدّ من أن يقود عاجلاً أم آجلاً إلى عودة الانقسام السياسي العمودي، وقد شهدت المرحلة الأولى من الفراغ مواجهاتٍ وحملات عدة عمل الرئيس المكلف على تهدئتها، ولكنّ العجز عن التأليف سيولِّد تلقائياً التوترات السياسية والتي قد تكون مفتعلة من ضمن سياسة شدّ الحبال والكباش لدفع هذا الطرف أو ذاك ليصرخ أولاً، والاشتباك يبدأ بملفات داخلية ويتطور نحو الملفات الخلافية الخارجية، والنموذج الحاصل اليوم، على رغم أنه ما زال في بداياته، والمتّصل بالاشتباك حول إحياء العلاقات مع النظام السوري أكبر دليل على ذلك، فيما الظروف قد تقود إلى تطوره ليتحوّلَ أزمةً بحدّ ذاتها.
الخطر الثالث من طبيعة إقليمية لجهة أنّ الفراغ وإبقاء البلد في حالة انكشافٍ سياسيّ يجعل التربة اللبنانية تربةً صالحة لعودة لبنان ساحة صراعات ونفوذ وصندوق بريد، وبالتالي سقوط سياسة النأي بالنفس التي نجحت في ترسيخ الاستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي، ومعلومٌ أنّ النظام السوري لن يتأخّر بتسخين الوضع اللبناني لو كان قادراً على ذلك. وإذا كان نجح لبنان طيلة المرحلة السابقة في تجنّب الحرائق المشتعلة في أكثر من دولة في المنطقة، فإنّ مسؤولية القوى الأساسية تكمن في إبقاء هذا الأمر ضمن الخطوط الحمر على قاعدة التمييز بين الخلاف السياسي، وبين تحويل لبنان ساحة ساخنة.
الخطر الرابع من طبيعة ميثاقية ويتّصل بميثاق العيش المشترَك بين اللبنانيين، وقد شهدت المرحلة الأخيرة توتراتٍ طائفية لا يمكن الاستهانة بمؤدّياتها، خصوصاً في حال استفحل الفراغ وتمّ العمل على تغذيتها، من اشتباك الوزير جبران باسيل مع حركة «أمل» على أثر كلامه عن تكسير الرؤوس الذي أفضى إلى تحركاتٍ في الشارع واستنفاراتٍ متقابلة، مروراً باشتباك باسيل مع الطائفة السنّية على خلفية محاولاته الإطاحة بصلاحيات رئيس الحكومة من تحديده مهلةً للتأليف غير واردة في الدستور، إلى كلامه عن وضع معايير غير ملحوظة أيضاً في الدستور والتلويح بحكومة أمر واقع ووضع الشروط على الرئيس المكلف، وصولاً إلى اشتباك باسيل مع «الحزب التقدمي الإشتراكي» وتدخّله في شؤون الطائفة الدرزية ومحاولاته تغليب طرف على طرف آخر وإحياء مشاعر عدائية.
فالوزير باسيل أطاح بفترة قياسية بكل شبكات الآمان التي تمّ العملُ عليها وأيقظ المشاعر العدائية بين الطوائف وحوّل الخلاف إلى مذهبيٍّ وطائفيٍّ بعدما كان استقرّ طويلاً كخلاف سياسي، وذلك في استعادةٍ للاستراتيجية التي كان يتبعها النظام السوري على قاعدة تخويف الطوائف من بعضها البعض.
الخطر الخامس من طبيعةٍ أمنية، حيث إنّ الفراغ معطوف على وضعٍ اقتصاديٍّ سيّئ وانقسام سياسي وفتنة طائفية وتدخلات خارجية يؤدي تلقائياً إلى انهيار الاستقرار الأمني الذي مناعته الأساسية تكمن في الاستقرار السياسي، وبالتالي مع الانهيارات المتتالية على أكثر من مستوى وصعيد مَن يستطيع أن يضمن استمرار الاستقرار الأمني، فيما قد يكون الهدف من كل ذلك إما تحويل لبنان إلى ساحة أمنيّة مجدّداً من أجل إثارة الغبار السياسي لتغطية تسويات يتمّ التهيئة لها في هذه الدولة أو تلك، أو دفع الوضع باتّجاه تسوية معيّنة بشروط فريق معيّن، ولا حاجة إلى التذكير بأنّ اغتيال الشهيد محمد شطح أدّى إلى تغيير المسار السياسي في لبنان.
الخطر السادس من طبيعة دستورية، فالخشية كل الخشية في حال أدّى الفراغ الحكومي إلى كل ما سبق من مخاطر اقتصادية وانقسامية وميثاقية وأمنية أن تنتقل الأزمة من حكومية إلى كيانية أو أزمة نظام، فيكون الرئيس ميشال عون الذي دفع من خلال ما سُمّي بـ«حرب التحرير» إلى ولادة اتّفاق الطائف شكّل عهدُه نهايةً لهذا الاتّفاق.
فالمخاطر أعلاه جدّية لا سيما في حال تقاطع أكثر من فريق خارجي على إشعال الجبهة اللبنانية لحرف الأنظار عن التسويات على الجبهات الأخرى، ولكن لغاية اللحظة ما زالت الإرادة الدولية والمحلية مع الحفاظ على الاستقرار اللبناني وترسيخه، ويمكن الجزم أنه لا يوجد أيُّ طرف أساسي داخلي بوارد جرّ لبنان إلى حرب، كما أنّ أولويات الخارج الثلاث ما زالت نفسها لجهة تطويق مساحات النزاع منعاً لتمدّدها، والحفاظ على أمن إسرائيل لا سيما أنّ مَن يعمل على تهدئة جبهة الجولان لن يفتح جبهة الجنوب اللبناني، وتجنّب أزمة نزوح جديدة.
وعلى رغم التقاطع الخارجي والداخلي على استبعاد تحويل لبنان إلى ساحة ساخنة، ولكنّ الاستبعاد لا يكون فقط بالنيات الحسَنة، إنما عن طريق تحصين الوضع السياسي من خلال إبعاده عن الانقسامات العمودية والخلافات الطائفية والمذهبية وتأليف حكومة تجمع القوى الأساسية تحت سقفها ما يعيد الخلافات إلى داخل الأطر الدستورية، وبخلاف ذلك يمكن توقّع أيّ شيء باعتبار أنّ لبنان ليس سويسرا والتوتر يقود إلى توتر، وإذا كانت جميع القوى أقفلت الباب سريعاً أمام دعوة أحد الأطراف لاستخدام الشارع تجنّباً لانزلاقات غير محسوبة، فإنّ أحداً لا يستطيع أن يضمن الاستقرار في حال طال أمدُ التأليف وترافق مع أزمات مالية وسياسية، وبالتالي المطلوب وبإلحاح تأليف الحكومة بعيداً من حسابات الثلث المعطل أو محاولات تحجيم هذا الطرف أو ذاك.