قال أبو تمّام:
«نقِّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى
ما الحبَّ إلاّ للحبيبِ الأول»ِ
لا يصحّ أن نفسّر «الحبيب الأول» بظاهر اللفظ، فيكون صاحب الرقم الأول في سجل العاشق، في كل الأحوال، فقد يكون صاحب الأثر الأقوى في القلب، مهما كان رقمه في السجل المعطّر...
معظم ما يُنظَم اليوم ويُكتَب نثراً وباللهجات المختلفة والمتشعبة والمتداخلة، لا يشمله بيت أبي تمام لا بظاهر لفظه ولا بفحواه، لأنه ينقل قلبه المتقلّب من هذه الى تلك، والى غير هذه وتلك من اللواتي يقدمون قائمة «موجزة» بأسمائهنّ في دواوينهم، وهم يتحدّون أبا تمام إذا كان يستطيع أن يلقى في قلبه المفتوح الأبواب والنوافذ، طيف الحبيب الأول.
الحب لا يترك أثراً باقياً في القلب، إلا إذا تجلّت بواعثه الأولى روحية، وإلا إذا انضجه الزمن في أتون التجارب. أما إذا تبينت البواعث الأولى للحب حسّية جسدية، فإن آثاره في القلب لا تختلف عن آثار الإقدام على رمال الصحراء!
الحب الذي يتحدّث به عدد من «شعراء» اليوم، يسبّب لضحاياه فراغاً روحياً ضارياً على الرغم من أنه قد يثير بعض الأحاسيس الآنية العابرة. فهو حبّ ميسور لا يحتاج الى أكثر من عين تبصر ويدٌ تؤشّر، والرزق بعد هذا، موفور ولا ريب!
قد ينذرون كتاباتهم للغزل، وقد يعيشون أحياناً تجربة الحب في كل لحظة من لحظات حياتهم، إلا أننا لا نسمع في هذه الكتابات خواطر فكرية أو مشاعر يزاوجها خيال مجنح وشطحات متسامية. يستجيرون بالغواني كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولا يطلقون العنان لعواطفهم المحتدمة ولا يصيحون بأعلى صوت وجدانهم.
قصائدهم قلما تتجلى بريئة من الغزل الحسي وقلما تقع فيها على آيات وجدانية ملتهبة تصور حيرة كل عاشق مهجور وألمه وضياعه.
نبحت عن الرقة والأنغام الموسيقية الشجية العذبة. نبحث عن النفس الطويل حيث لا عثرات ولا كبوات. نفتش عن تجربة معيشة فعلاً لا نهرب منها قبل أن يهرب منا الصبر ونبحث عن ضالتنا المنشودة في كتب تاريخ الأدب العربي أو الأجنبي.
اين الكتابات المفعمة بالألم، المشحونة بالضرم؟ اين واحات الابداع في صحراء حياتنا، تثير شهوة الكتابة وتشبع شهوة المطالعة لدينا ولدى اجيالنا الصاعدة فعلاً؟
العمل الأدبي لا يتم نتيجة معجزة، بل يتطلب تحضيراً كالتربة، مهما تكن غنية، تظل في حاجة الى غذاء، وعلى الأديب أن يوسع نطاق شخصيته ويعمقها ويغنيها باقتباس الأفكار، وأن يبذل قصارى جهده لتظل التربة مهيّأة.
الدكتور جهاد نعمان