في نيسان، قدّمت مبادرة المسرح من الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB) بالتعاون مع "بيت الفنان" في بلدة حمّانا، عرضاً لمسرحية فيديريكو غارثيا لوركا "عرس الدّم"، بعد تقديم ترجمة إلى العربية (واللهجة اللبنانية)، بإشراف وإخراج سحر عسّاف، وإنتاج روبيرت مايرز، الذي تحدث عن رؤيا العمل لرصيف22.
القريّة كخشبة
حاولت عساف تحويل القرية إلى فضاء مسرحيّ ضمن ما يسمى "المسرح الخاص بالموقع"، حيث يستحضر الأداء الجسدي واللفظي للمثليين مساحات متخيّلة رسمها لوركا في عرس الدم، إذ لعب المؤدون أدوارهم في بيوت قاطني القرية، وكنائسها، وطرقاتها، مع مزيج من الموسيقى العربية والإسبانيّة، ما غير التكوين الرمزي للمكان، وأتاح للجمهور اكتشاف مساحات جديدة لأماكنهم المألوفة التي اعتادوها كأن تتحول الحديقة الخلفية لمنزل إلى فضاء عرس.
ويضيف مايرز أن الهدف من المسرحيّة كان وضع الجمهور ضمن سياقات "الحياة الواقعيّة"، فالأماكن التي تم اختيارها بقيت متروكة على حالها، ولم يتم تحويلها أو تغييرها، وذلك كي يتمكن الجمهور من اختبار المَشاهد كما لو أنها حدثت فعلاً في هذه الفضاءات.
الاستثناء الوحيد كان صالة السينما المهجورة منذ عام 1970، التي تم تحويلها إلى ما يشبه فضاء الحلم، بحيث تحوي غابة ومشهد حبّ تم تصويره سابقاً و عرضه فيها.
عمد القائمون على العرض إلى تقسيم سكان القرية والمشاهدين إلى مجموعتين، تحضران في مكانين مختلفين لتأدية المشهدين الأول والثاني من المسرحيّة، ثم اجتمعت المجموعتان نهاية في "كنيسة حمّانا" ليشهدوا نهاية العرض، وبعدها في "بيت الفنان" لتحية فريق العمل.
يقول مايرز أن أصحاب الأماكن التي كانت تقام فيها المشاهد كانوا جزءاً من اللعبة، إذ كانوا يعلمون أن هناك مسرحيّة تقام، في حين أن الباقين، كانوا يتفاعلون مع الأداء كما يريدون، فبعض المشاهدين قاموا بتهنئة العروس وهي ترتدي ثوب الزفاف، أما المؤدون فكانوا يتصرفون وكأن الجمهور غير موجود، مع تفاعل بسيط سببه ضرورات العرض.
العلاقة السابقة بين الجمهور والمكان أتاحت التعرف على القريّة من وجهة نظر مختلفة، عبر الانتقال من الفضاءات الحميميّة للمنازل والشقق، إلى تلك العلنية التي يجتمع فيها الناس عادة،كالساحات والشوارع والكنائس، إذ قامت الممثلة ريتا باروتا التي تؤدي دور متسولة وراوٍ للمسرحيّة، بقيادة الجمهور عبر شوارع القريّة نحو أماكن "الأداء"، لتكون إلى جانب الممثلين الـ 25 المشاركين في العرض أساس تحويل القرية إلى خشبة كبيرة لنص لوركا.
ويرى مايرز أن هذه المقاربة سمحت بتحرير الجمهور من انضباطه، والتعامل معه بصورة مختلفة، إذ تم توجيه المشاهدين نحو أماكن الأداء وكأنهم أمام أحداث من الحياة اليوميّة.
قبل العرض
تقول عسّاف أن التحضيرات بدأت قبل عام من المسرحيّة، وكانت الفكرة الأوليّة إقامة العرض ضمن حرم الجامعة، إلا أنها قررت تجاوز هذا الخيار، لأن الجمهور لن ينسى أنه في حرم جامعة، وخصوصاً أنه مألوف للكثيرين، وتضيف أنها أرادت خلق إحساس بأن الجمهور في قرية، وحرم الجامعة لن يخلق هذا الإحساس، ذات الشيء حصل حين حاولت أن تقيم العرض في بناء قديم في بيروت.
وقع الخيار نهاية على قرية حمانا، ليتم بعدها التعاون مع "بيت الفنان" هناك، الذي لفريقه معرفة بسكان القرية وفضاءاتها، إلى جانب كون "بيت الفنان" مساحة فنية إبداعية لتطوير المشاريع المسرحية المميزة سواء على الصعيد المحليّ أو العالميّ.
بدأت التدريبات ضمن حرم الجامعة، سواء في الأماكن المغلقة أو الخارجيّة، وذلك كي يألف الممثلون العلاقة مع العناصر التي لا تنتمي للفضاء المسرحيّ التقليدي المضبوط، وتقول المخرجة:
"أخذت الممثلين لزيارة القرية، في اليوم الأول لم نفعل شيء، مشينا واستكشفنا القرية، كنا نعمل في بيوت السكان، لذا لم يكن لدينا فرصة الدخول إليها في الوقت الذي نريد، لم تكن لدينا أي علاقة مع القرية خارج المركز الفنيّ، لذا كان من المهم احترامهم والمواقيت التي يضعونها للزيارة".
وحسب مايرز وضع العاملون في المسرحيّة فرضية أن الأحداث تدور في بداية السبعينات، قبل الحرب الأهلية اللبنانيّة، إلا أن هذا الخيار لم يتم الإفصاح عنه بوضوح، لكن يمكن للمشاهد أن يتلمس نهاية، أن هذا الصراع الدموي سيؤدي إلى المزيد من العنف والاقتتال.
منذ تأسيس مبادرة العمل المسرحي في الجامعة الأمريكيّة، عمد الفريق على إقامة عدد من العروض خارج خشبات المسرح الرسميّ، وخصوصاً أن الجامعة الأمريكيّة لا تحوي مساحة مخصصة للمسرح أو الأداء، إذ قامت عساف قبل العمل على نص لوركا، بإخراج عرض باسم "أنا أمل"، الذي يتفاعل فيه الجمهور مع العمّال في الجامعة الأمريكيّة.
كما أقامت بعدها عرضاً باسم "أنتا وراجع لورا..انتبه" في حي الخندق الغميق في بيروت، والذي ما زال يحوي أبنية عليها أثار الرصاص من أيام الحرب، ويقول مايرز أنه كتب سكريت العرض الذي يشبه الجولة السياحيّة، والذي يقوم فيه الدليل السياحي بالحديث عن المكان متجاهلاً كليا أي أثر للحرب، وهذا يشابه التقنية المتبعة في عرض لوركا، إلا أن المؤدين في القرية لم يتفاعلوا مع الجمهور بنفس الطريقة.
لوركا والثقافة العربيّة
يقول محمود درويش في آخر قصائده "لاعب النرد ":
أُحبك خضراءَ" . يا أرضُ خضراءَ . تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء. خضراء. ليلُكِ
أَخضر. فجرك أَخضر. فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم ، في حفنة من هواء.
أَنا بذرة من بذورك خضراء ... /
تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ ...
وكأنه يحيل بصورة غير مباشرة إلى لوركا واللون الأخضر الذي يتكرر في قصائده، كما في "حكاية السائرة في النوم":
خضراء ، أحبـك خضراء
خضراء الريح ،خضراء الأغصان
القارب في اليـم
والحصان في الجبل
بالضلال في خصرها
وهي تحلم في شرفتها
خضراء اللحم،خضراء الشعر
بعينين من فضة باردة
خضراء ، احبك خضراء
وهنا تجدر الإشارة أن تجربة عساف مع لوركا تعتبر جزءاً من تاريخ حضور هذا الشاعر في الثقافة العربيّة، سواء عبر ترجمة نصوصه أو تأديتها، فالأخير كان متأثراً بالثقافة العربيّة، وحسب مايرز، كان يستخدم بعض أشكال التعبير العربيّة في نصوصه، ما يدل على علاقته الوثيقة بالتقاليد العربيّة الثقافيّة.
كما أن مكانته كشاعر وشهيد سياسيّ، جعلته ذا تأثير كبير في الثقافة العربيّة، بوصفه شخصيّة تتجاوز الرومانسيّة، وفقد حياته في سبيل فنه، إذ تم اعتباره في بداية الحرب الإسبانية تهديداً للفاشيين، بسبب ميوله الجنسية ونشاطه مع الحركة السورياليّة، وتعاطفه الواضح مع الفلاحين الذي نتلمسه في مسرحياته.
اعتمدت المادة على حوار مع روبيرت مايرز خاص برصيف22، ومقالة نشرت باللغة الإنكليزية، في موقع Arab Stages، للناشطة المسرحية أشلي ماريناتشيو Ashley Marinaccio (الرابط).