ليس فقط بفعل الخلاف على توزيع الحصص الوزارية في الحكومة المرتقبة، وإنّما نتيجة الخلل المتراكم في تفسير «اتفاق معراب» وتطبيقه. ولئن كان الجانبان يحرصان على تحييد المصالحة المبدئية، التي تمّت بينهما عن النزاع على الأدوار والسلطة، إلّا انّ ذلك لا يخفّف من وطأة الملفات والعوامل التي تفرّقهما في هذه المرحلة، في ظلّ احتقان متبادل تغذّيه قلوب ملآنة وهواجس متبادلة.
المفارقة، انّه في مقابل الخيبة التي يشعر بها الطرفان، يتوقف مصدر بارز في «القوات» بإعجاب عند تجربة الثنائي الشيعي في الدولة، مشيراً الى ان حركة «أمل» و»حزب الله» نجحا من خلال تناغمهما في تأمين حقوق المكوّن الشيعي وفق ما يريانه مناسباً، وتمكّنا من إرساء توازن دقيق ضمن الطائفة الشيعية، لافتاً الى انّ مفهوم الشراكة المتفق عليه بين الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله يبدو ثابتاً وراسخاً على رغم الاختلافات في الاحجام أو في السياسات أحياناً.
ويلاحظ المصدر ان الثنائي الشيعي توصل الى اقتناع بأن قوته تكمن في وحدته بالدرجة الاولى، وانّه لو سمح باستفراد أحد طرفيه لما كان استطاع ان يحقّق المكاسب النوعية التي تمكن من انتزاعها عبر مراحل حضوره في السلطة. كذلك يشير المصدر «القواتي» الى انّ الثنائي الشيعي نجح من خلال المعادلة التحالفية التي نسج خيوطها بإتقان، في أن يصنع التوازن مع المكونات الاخرى في البلد، ويفرض وجوده رقماً صعباً في جدول الحساب الداخلي، «بمعزل عن موقفنا المعروف من سلاح «حزب الله» ومشاركته في الحرب السورية، وقد انعكس هذا الانسجام بين الحليفين تفاهما على كل ما يتصل بالتعيينات او بتوزيع الحقائب الوزارية او بالتحالفات النيابية، بل أن «حزب الله» لا يتردد، على سبيل المثال، في تفويض الرئيس بري بالتفاوض نيابة عنه حول الحصة الشيعية في أي حكومة».
وبعد هذا الثناء على نمط التعاون بين حركة «أمل» و»الحزب»، يتوقف المصدر القيادي في «القوات» بمرارة عند تجربة الثنائي المسيحي والاخفاقات التي واجهت «تفاهم معراب». ويشير الى ان «القوات» و«التيار» وضعا تصوراً شاملاً للمشاركة في السلطة والشراكة مع المكوّن الاسلامي، بهدف تحقيق التوازن الحقيقي في السلطة وتقوية موقع رئاسة الجمهورية، «لكن عندما آن أوان تطبيق البند «ز» في «اتفاق معراب»، امتنع بعض القياديين النافذين في «التيار» عن تطبيقه وراحوا يتملصون منه، ما ضرب جوهر الاتفاق في الصميم».
ويوضح المصدر ان البند «ز» يتضمن اتفاق الطرفين على «ان تكون كتلتا «التيار» و«القوات» النيابيتان مؤيدتين للرئيس ميشال عون، وعاملتين على إنجاح عهده من خلال تحقيق المصالحة الوطنية ومكافحة الفساد وتعزيز الدور المسيحي الوطني وصلاحيات رئيس الجمهورية وتحقيق الإصلاح المنشود. وبغية الوصول الى هذه الغاية، يُشكل فريق عمل من الطرفين لتنسيق خطوات العهد وسياساته تبعاً لنظرة الفريقين معاً».
ويلفت المصدر الى ان «التيار» رفض في لحظة الحقيقة تشكيل فريق العمل المشترك، «علماً أننا ألحّينا عليهم لتكوينه بعد تأليف الحكومة، لكن الممسكين بالقرار البرتقالي كانوا يرفضون بسبب نزعة الاحتكار والجشع لديهم».
ويكشف المصدر عن ان «القوات» اقترحت ايضاً على «التيار» تأليف لجنة مشتركة من مهندسي الطرفين بغية وضع مقاربة مشتركة لملف الكهرباء ومؤازرة الوزير سيزار أبي خليل في مواجهة أعبائه، «إلاّ انهم رفضوا ذلك، علما أننا اكّدنا لهم انّ ملاحظاتنا على السياسة الكهربائية المعتمدة لديهم لا تستهدف «التيار» أو العهد، وان ليست لدينا بتاتاً أيّ نية في هذا الاتجاه».
ويستعيد المصدر «القواتي» ما أسماه التعاطي الاحتكاري لـ«التيار الوطني الحر» مع التعيينات الادارية المتعلقة بالمسيحيين، «وما تخلله من فساد غير مسبوق في التشكيلات القضائية عبر عدم احترام الاقدمية، وصولاً الى الاستحواذ شبه الكامل على مجلس ادارة «كازينو لبنان» في ترجمة للنهم السلطوي المُفرِط، وهو الامر الذي كان بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير».
ولا يفوّت المصدر «القواتي» البارز الشكوى من تعيينات مصالح المياه ايضاً، «ما دفع وزير الاعلام ملحم الرياشي بعد احدى جلسات مجلس الوزراء الى القول صراحة أنّه يحسد الثنائية الشيعية».
وبناء على كل هذا المسار، يعتبر المصدر البارز انّ سلوك بعض قياديي «التيار» يشبه سلوك بعض القوى الشيعية في العراق «بينما يتمايز شيعة لبنان في إدارة شؤونهم بحكمة وحنكة». وينصح قيادة «التيار» باستخلاص العبر من القصة الآتية:
«حدث انّ ثعلباً أراد الدخول الى كرم عنب، لكن الفجوة التي ينبغي ان يعبر منها كانت ضيقة، ما اضطره الى اعتماد حمية قاسية والتوقف عن تناول الطعام اياماً عدّة لكي ينحف ويتمكن من العبور. وبعدما انخفض وزنه، استطاع ان يدخل الى الكرم حيث اكل العنب حتى شبع وانتفخ، لكن ما فات الثعلب انّه عندما أراد الخروج، ضاقت عليه الفجوة مرة أخرى، فاضطر الى إجراء الحمية مجدداً والتخلي عن كثير من ملذاته وجشعه، إلاّ انّ المحاولة لم تنفع هذه المرة، لأنّ الوقت كان قد فات مع وصول صاحب الكرم».
ويضيف المصدر: «المؤسف انّ هناك قياديين في «التيار» يتصرّفون مثل هذا الثعلب!». ويشدد على انّ التيار لو يحترم المعايير المتوافق عليها في توزيع الحقائب الوزارية، لأمكن صنع توازن تام في السلطة مع المكونات الاخرى»، مشيراً الى «ان «تفاهم معراب» نجح خلال فترته الذهبية القصيرة في تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية على أرض الواقع، من دون الحاجة الى تعديل النص، «الاّ انّ المؤسف هو انّ «القوات» التي تملك مقاربة استراتيجية للأمور اصطدمت لاحقاً بعقلية الدكّنجي لدى مسؤولين محددين في «التيار»، من دون ان يعني ذلك أننا سنتخلى عن العمق الاستراتيجي للمصالحة المسيحية».
وفي هذا السياق يؤكد المصدر ان رئيس الجمهورية وقيادتي «القوات» و«التيار» لا يزالون يتمسكون بمبدأ المصالحة التاريخية التي تمّت بعد نزاع طويل وحاد، «ونحن نعرف أن الرأي العام المسيحي سيلعن عن كل من يتجرأ على نسف هذه المصالحة التي ارتقت الى مصاف القداسة»، ناقلاً عن البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي قوله للوزير الرياشي والنائب ابراهيم كنعان خلال لقائه بهما في الديمان أخيراً «ان الجمهور المسيحي اللبناني، المقيم والمغترب، يتصل ببكركي مستفسراً عن مصير المصالحة ومبدياً قلقه عليها».
ويدعو المصدر الى «حماية المصالحة بين «التيار» و«القوات» في اعتبارها نموذجا للمشاركة والشراكة وليس للتسلط ولمحاولة اعادة احياء الجمهورية الاولى بطريقة مشوهة»، مشيراً الى «ان الرئيس عون كان قد طلب من وزير الاعلام خلال احدى زياراته لقصر بعبدا ان ينقل الى سمير جعجع الرسالة الآتية: «المصالحة مقدسة، وما نختلف عليه في السياسة، يمكن ان نتفق عليه في السياسة».