بدت المحاولات مُقنعة شكلاً، بعد تقدّم التنازلات على ما عداها من خطوات على رُقعة الشطرنج الحكوميّة، لكنّ اللعبة لم تجد مَن يقول «كشّ» لـ«ملك التعطيل».
أمّا في المضمون، فالمراوحة تسود الحركة المكوكيّة، حيث إنّ المبادرات الانفتاحية التي وُضعت على طاولة رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، سواءٌ من جانب «التيار الوطنيّ الحرّ» أو «القوات اللبنانيّة»، لم تليّن بحصَ الطبخة.
أهمّ المتغيّرات الحاصلة منذ بدء التأليف هي انتقال «التيار الوطنيّ الحرّ» من المطالبة بحصّة عونيّة - رئاسيّة، من أحد عشر وزيراً إلى عشرة. في لغة الأرقام، قد لا يؤشّر هذا التراجع إلى نقلة نوعيّة لأنّها بالنتيجة كتلة وازنة في الحجم وفي التأثير. لا مشكلة في وزير «بالزائد أو بالناقص».
ولكن بمنطق المعادلات الحكوميّة هو تخلّ واضح عن ورقة «لوتو» كان يسعى رئيس «التيار» جبران باسيل إلى امتلاكها وتسجيل حصريّتها باسمه طول عمر الحكومة، المقدّر لها أن تسجّل رقماً قياسياً إذا صمدت أربع سنوات.
ثاني تلك المتغيّرات، خطوة «القوات» إلى الأمام بالتخلّي المشروط عن الحقيبة السياديّة، إفساحاً في المجال أمام صيغة «لا يموت فيها الديب ولا يفنى الغنم». ولكنّها أيضاً لا تزال حبراً على ورق.
اللافت في ظروف الطبخة الحكومية، أنّ قرقعة طناجرها هي على قاعدة «صيت غنى ولا صيت فقر». تُحمّل أكثر ممّا تحتمل. تكاد تكون الأولى منذ العام 2005، التي تُسقط منطق الأكثريّات الحاكمة والأقليّات المعارضة. تداخلت الاصطفافات والمعسكرات بفعل التطوّرات الاقليميّة، وتلك الداخليّة التي عكستها نتائج الانتخابات النيابيّة، إلى حدّ ذوبان متاريس «النصف زائداً واحداً»، و»الفيتو المعطّل».
في العنوان العريض، لا يزال بعض الجولات يُخاض تحت عنوان البحث عن هذا «الثلث»، أو ذلك «النصف»، أو حتى عن «وزراء ملوك» يتماهون بخفّة بين «البلوكات» الحزبيّة المتخاصمة. لكنّ البحث المعمّق في جوهر الأزمة يُظهر أنّ الإيحاء بوجود معارك صاخبة تدور رحاها حول توزانات الحكومة، هو غبار يخفي «صراعات» مكتومة الهويّة السياسيّة، حول نفوذ كل فريق وحضوره الوزاري، لا أكثر.
وحده جبران باسيل يخوض حرب «كوتا المثالثة» مضافاً إليها «وزيره الملك» رقم 11 الذي يسمح له بأن يكون «الرقم الصعب» في المعادلة الحكومية. وضع نصب عينيه ثلث الحكومة بمزاوجة بين حصّتي «التيّار» والرئيس، ليضع «بطاقة ذهبية» في جيبه طوال عمر العهد.
وهو يطمح إلى أن بكون ملك «ملوك الطوائف» في حكومة فائقة الأهمّية، لا بل إستثنائيّة بين حكومات ما بعد «الطائف». يمنحه هذا الثلث «قراراً فوق العادة» يحرّره من شركائه ومن خصومه على حدّ سواء ويسمح له باستثماره في القضايا الكبيرة والصغيرة... والأهم من ذلك، قد يتحوّل إلى بطاقة «خالصة الأرباح» فيما لو شغر قصر بعبدا وصار مجلس الوزراء مؤلّفاً من 30 «رئيساً».
كل هذا وهو يعرف جيّداً أنّ حكومات لبنان تحكمها الميثاقية المذهبية، وباستطاعة الوزيريْن الأرمنيّين أن يعطّلا عمل السلطة التنفيذية لو أرادا مقاطعة مجلس الوزراء.
لا حاجة إذاً لثلث «صافٍ» في جيبه لكيّ يصوّب أداء الجالسين قبالته، بدليل تجربة حكومة تمام سلام الأخيرة التي كان «ميزانُها» يتحرّك على وقع تضامن «حزب الله» مع «التيار» في كل مرّة كان يعترض فيها الأخير على سير عمل الحكومة.
ورغم ذلك، يقول أحد المعنيين بمشاورات التأليف، إنّ تراجع باسيل عن الثلث المعطّل قد لا يكون أكثر من مناورة استيعابية قد ينقلب عليها إذا ما استنفدت مهمّتها.
في المقابل، تُثار التساؤلات حول عديد «الكوتا» التي يعمل على تحصيلها تحالف «تيار المستقبل» «الحزب التقدمّي الاشتراكيّ» «القوات اللبنانيّة». الثابت إلى الآن أنّ الثلاثي متفاهم ومتفهّم لمطالب كلّ طرف. فلا خلاف على حصريّة التمثيل السنّي بالتيار «الأزرق»، باستثناء ما قد يجيّر للرئاسة الأولى. كذلك الأمر بالنسبة لحصر التمثيل الدرزي بجنبلاط. أمّا بالنسبة لحجم «القوات»، فالحريري يبصم «على العميانة» على ما تريد معراب. ولكن إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يصل سقف هذا المعسكر؟
وفق المطّلعين على موقف رئيس الحكومة المكلّف، تدرّج الحريري في سلّم مطالبه من سبعة وزراء إلى ستة بينهم وزير مسيحي يبادله مع الرئاسة الأولى، قد يكون أرمنياً، خصوصاً أنّ حضوره النيابيّ المسيحيّ قد يخرجه من لعبة التمثيل النسبي خالي الوفاض. وبالتالي هو مكره لا بطل في مجاراة رئاسة الجمهورية في مطلبها بوزير سنّي لكي يلوّن حصته الوزاريّة بمسيحيّ.
وإذا ما تواضعت «القوات» إلى حصّة رباعيّة، وهو الأمر المرجّح، بينما الحصّة الجنبلاطيّة مقفلة على ثلاثية غير قابلة للتفاوض، فهذا يعني أنّ مجموع هذا المحور قد يبلغ 13 وزيراً في أحسن حالاته. إذاً، هو يضمن ثلثه المعطّل، ولكن يستحيل عليه بلوغ المناصفة الحكوميّة.
ومع ذلك، يجزم أحد المعنيين بمشاورات التأليف بأنّ لعبة الأعداد لا «تقريش» لها في توازنات الحكومة حيث يسعى «حزب الله» وشركاؤه إلى تثبيت نتائج الانتخابات النيابية في معادلة تركيبها. شرّعت صناديق الاقتراع الانقلاب السياسيّ، ونقلت الغالبية النيابيّة من ضفّة إلى أخرى. كرّس «اتفاق الدوحة» الثلث المعطّل لقوى الثامن من آذار التي باتت تسبح في بحر غالبيتها. أما خصومها، فلم يعد هذا السلاح يغريهم، طالما أنّ التعطيل سيكون ضدّهم، وهم على رأس الحكومة.
اذاً، سلاح التعطيل العددي فقد صلاحيّته، وانتقلت اللعبة إلى حدود أكبر، لتصير في السياسة، وفي التفاهمات التي تحمي العهد وتحصّنه... بدليل أسباب عرقلة الولادة، والتي لا تُقرأ إلّا بالسياسة.