منذ أن أعلن الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، قرار «الحزب» محاربة الفساد وإنشاء جهاز بإشرافه لأجل هذه المهمة، على أن يديره النائب حسن فضل الله، كبرت الآمال المعقودة على هذه المهمة الانتحارية، ربما بأكثر مما خطّط حزب الله لنفسه. التحدّي الأكبر في الآلية التنفيذية التي ستُستخدم لمهمة، ستضع حزب الله في مواجهة مع الجميع، إلا إذا قرر تدوير الزوايا لاعتبارات متعددة.
رَفض حركة أمل لرسّو الباخرة التركية لتوليد الطاقة الكهربائية في مرفأ الزهراني، و«ترحيلها» إلى كسروان ـــــــ الفتوح، وتأييد حزب الله لموقف «الحركة» بعد أن كان من المؤيدين لحلّ الباخرة المؤقت، دفع قسماً من الرأي العام إلى السؤال عن قدرة «الحزب» على إطلاق معركة مكافحة الفساد، وهل التعامل مع هذه المهمة الوطنية بامتياز سيكون أسير حسابات تخص الحزب وحده؟
طريقة معالجة قضية الباخرة التركية، أسهمت في تزكية نيران الناس المعترضة. فتصرّف التيار الوطني الحرّ (في كسروان ـــــــ الفتوح) وحركة أمل (في الزهراني)، وكأنّ كلّاً منهما بات مسؤولاً عن «كانتونه» ويُفتي فيه وفق مصلحته، عزّز الشعور بأنّ لكل فريق سياسي «دولته»، التي لا يُسمح لأحد بتخطّي حدودها، إلا بإذنٍ منه، ما يُعرقل بالتالي أي مُحاولة إصلاحية تراهن عليها أغلبية الرأي العام اللبناني.
صبّ الناس غضبهم ولومهم على حزب الله، لأنّه «تبنّى» أخيراً ملف مكافحة الفساد، ولأنّه بنظرهم «على كلّ شيء قدير». أرادوا منه استغلال الاختبار الأول (الباخرة التركية) لإطلاق شرارة مكافحة الفساد. ولمّا لم يكن لهؤلاء ما أرادوا، أظهروا على وسائل التواصل الاجتماعي يأسهم وعدم ثقتهم بمحاولات تحسين أوضاع البلد. مُطالبات الناس لم تجد لها صدىً، لأنّه بالنسبة إلى حزب الله لم يكن موضوع الباخرة التركية «ملف فسادٍ». كلّ القصّة عبارة عن حلقة من الحرب السياسية الباردة بين حركة أمل الرافضة لحلّ البواخر، والتيار الوطني الحرّ المؤيّد لهذا المشروع. هذا التبرير، لم يمنع إطلاق نقاش حول الآلية التنفيذية التي سيستخدمها حزب الله في هذه «المغامرة الكبيرة»، والتي ستكون عبارةً عن حقل ألغام ضخم، ليس فقط مع أصحاب المصالح الذين سيُدافعون بشراسة عن مصالحهم، بل مع الناس الذين تختلف أجندة اهتماماتهم عن أجندة عمل «الحزب» في مكافحة الفساد. يفرح اللبنانيون لمعاقبة موظف مرتشٍ، أو لزيادة ساعات التغذية الكهربائية، ولعدم انقطاع المياه... وكأنّ بهذه «التفاصيل»، تُحلّ أزمة نظام مهترئ صار «أربابه» أنفسهم، بالمعنى السياسي أو الاقتصادي، يتوقعون انهياره الحتمي، ولو أن أحداً لا يملك التوقيت الدقيق للانهيار!
منذ أن أعلن الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، في 21 آذار الماضي، أنّ «الحزب» سيشنّ حرباً على الفساد، من خلال تشكيل إطار تنظيمي يُشرف عليه الأمين العام شخصياً، أُلقي حملٌ ثقيل على ظهر حزب الله. عاد الأخير لينغمس في قلب مشروعٍ يُدرك جيّداً مدى صعوبته، وهو الذي كان طوال سنوات لا يعتبر أنّ مكافحة الفساد تندرج من ضمن الأولويات. عينه كانت في مكانٍ آخر، على كيفية مواجهة الانقسام السياسي الحادّ داخلياً وتجميع جبهة الحلفاء، وفي الخروج منتصراً من حروب الإقليم. تبدّلت الأمور، ليتقدّم ملفّ الفساد، مصحوباً بحقيقة أنّ البيئة الحاضنة للمقاومة باتت بحاجة إلى ما هو أبعد من «العناوين الاستراتيجية»، وإلى من يؤمّن لها أبسط متطلباتها الاقتصادية والمعيشية، ومن يُقدّم أداءً في الحكم، مُختلفاً عن السائد. «واجبات» حزب الله تجاه الناس تُدركها القيادة الحزبية جيداً، وهي بدأت العمل على استراتيجية خاصة بها منذ قرابة سنة. إحدى الخطوات لذلك، تحويل البرنامج الانتخابي إلى بنود عملية، وفي الزيارات التي يقوم بها نواب حزب الله للمناطق، للاستماع مُباشرةً إلى مطالب الجمهور. الفيديو المُسرّب للنائب حسن فضل الله من بلدة دير انطار في قضاء بنت جبيل، مثالٌ على ذلك، حيث طالب أحد المواطنين قيادة حزب الله وحركة أمل برفع الغطاء عن الأساتذة والإدارة في المدرسة الرسمية في بنت جبيل، ورفع الغطاء عن البلديات، والمطالبة بالمياه ووجود مستشفى وجامعة... استمع فضل الله إلى الرجل، وكان هناك من يُسجّل المطالب.
إلا أنّ العلاقة المباشرة مع المواطنين لا تعني التسليم لهم بكلّ ما يُنادون به. ففي الفيديو، ظهر فضل الله يُخالف المواطن في مطلب تشييد بناء إضافي ومخالفة التصنيف المُحدد للمنطقة. «مش موافق معك... ما فينا نعمل فوضى»، قال النائب فضل الله. الأمر نفسه سينطبق على استراتيجية مكافحة الفساد، «حزب الله هو من يختار ملفات مكافحة الفساد التي سيفتحها، وفق البرنامج الذي وضعه لنفسه، من دون أن يسمح للشارع بأن يقوده»، بحسب مصادر مُتابعة. وتُضيف أنّه توجد وسيلتان لمكافحة الفساد: الوسائل الجذرية والوسائل الوقائية، «الحزب سيلجأ إلى الثانية، من خلال الاعتماد على القوانين وإدارات الدولة وتعزيز دور مجلس الخدمة المدنية للحدّ من الزبائنية، بحثاً عن الحدّ من الهدر والفساد». لن يتوقع أحدٌ إذاً، حلّاً جذرياً لمشكلة الفساد في لبنان، أو محاسبة عن كلّ المرحلة السابقة، «ولن يغرق حزب الله في التفاصيل، بل سيُعالج الملفات الكبرى». البداية ستكون من ملف التلزيمات، «الذي يُشكّل احد أكبر مكامن الهدر في البلد».
اضطرار حزب الله إلى «مُسايرة» حركة أمل في موقفها من الباخرة التركية، مؤشر على «الإحراج» السياسي الذي قد يسببه موقف متباين لحليف أو صديق. تعود المصادر إلى النقاش بين حزب الله وحركة أمل في ما خصّ الباخرة، لتقول إنّه «في علاقات الحلفاء بين بعضهم، يحصل اختلاف في الآراء، ولكن النقاشات تجري في الغرف المغلقة، فهذا بيت واحد». وكذلك في ما خصّ مكافحة الفساد، «مُمكن أن تكون العلاقات الشخصية مع الحلفاء، عاملاً مساعداً للحدّ من الهدر، من دون التشهير بأحد. أصلاً، لن يلجأ حزب الله إلى التشهير، بل الإضاءة على الموضوع». يتعارض هذا الكلام مع منطق مكافحة الفساد، الذي من غير المفروض أن يُقيم اعتبارات لأي معيار «شخصي»، وقد يكون دليلاً على صعوبة مهمّة حزب الله. تردّ المصادر المطلعة بأنّ «المنظور الأساسي الذي تُقارب منه الأمور ليس أن تُعالَج الأمور آنياً، فهناك مقدمات وترتيبات تُمهّد إلى أن يُصبح الحد من الفساد أمراً سلساً».
الحزب يواظب على تجميع الملفات ودرسها من قبل فريق اختصاصي، وينتظر لحظة ولادة الحكومة الجديدة ونيلها الثقة حتى يبدأ العد العكسي للمهمة التي لا يتوقع الحزبيون أن تكون سهلة، لكنهم سيحاولون من حيث لم يبدأ أحد من قبلهم، أقله من أهل النظام الحالي.